حاجة عصرنا إلى تجديد الإيمان
بقلم د. يوسف القرضاوي
إن العالم كله أحوج ما يكون إلى الإيمان , ولكن الإيمان بالنسبة لنا نحن العرب والمسلمين , يعتبر جوهر وجودنا ، وهو لنا روح الحياة , وحياة الروح .
إن الإيمان هو سبيلنا إلى رضوان الله تعالى , وعدتنا في طريق الآخرة , فقد حُفت الجنة بالمكاره , وحفت النار بالشهوات , ولن نقدر على احتمال المكاره في طريق الجنة , ولا أن نقاوم الشهوات المفضية إلى النار , إلا بقوة روحية داخلية , تستحب المكاره , وتستعذب العذاب في سبيل الله , كما تركل الشهوات ولذائذ الدنيا كلها , وإذا كان من ورائها سخط الله .
وهذه القوة الروحية إنما يصنعها الإيمان , إنه هو الذي يحفزنا إلى أداء المهمة التي خُلقنا لها , وهي عبادة الله تعالى , ويحبب إلينا هذه العبادة حتى تغدو لنا قرة عين .. وهو الذي يأخذ بيد المرء ليقترب إلى الله تعالى بأداء فرائضه الواجبة عليه , ويزداد تقرباً إليه بنوافل الطاعات , حتى يربح حبه له , فإذا أحبه سبحانه كان سمعه الذي يسمع به , وبصره الذي يبصر به , ويده التي يبطش بها , وإذا دعاه أجابه , أو سأله أعطاه .
على أن الإيمان ليس سبيلا إلى سعادة الآخرة فحسب , بل هو السبيل أيضاً إلى سعادة الدنيا التي يحرص كل الناس عليها , ولا يجدها منهم إلا القليل، أو أقل القليل . وكم من أشياء يخطف بريقُها أبصارهم , فيلهثون وراءها يحسبون أن فيها السعادة المنشودة , فإذا هي سراب بقيعة , يحسبه الظمآن ماء , حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً .
إن الإيمان وحده هو الذي يمنح الإنسان الطمأنينة وسكينة النفس التي هي روح السعادة وسعادة الروح (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله , ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
قد يستطيع الإنسان بواسطة المال والثراء أن يوفر لنفسه كثيراً من اللذائذ , وأن يعب من الشهوات ما يمكن أن يُشترى بالدرهم والدينار , ولكن السعادة الحقيقية لا تعرض في الأسواق ، ولا تشترى بالنقود ولا بالنفوذ , لأنها تنبع من أعماق النفس , وليست سلعة نستوردها من هنا أو هناك .
وهي التي قال عنها أحد السلف الصالح على شظف عيشه : (إننا في سعادة، لو علم بها الملوك لجادلونا عليها بالسيوف) !
وقد يستطيع الإنسان بواسطة العلم أن يعيش في عالم أوتوماتيكي . يضغط بأصبعه على زر عن يمينه أو يساره أو أمامه أو خلفه , فيدنو له البعيد , ويلين له الحديد , ويتحرك الساكن , ويسكن المتحرك , ويعيش ناعما مرفها وكأن عشرات من الخدم بين يديه , فهو لا يقل – بل يزيد – فيما يتمتع به عن قارون العتيد , أو هارون الرشيد ..
ولكن العلم – وإن هيأ للإنسان رفاهية الجسم – لم يهيئ له طمأنينة القلب , منحه الوسائل , ولم يمنحه غاية يعيش لها , لأن هذه ليست مهمة العلم , بل هي مهمة الإيمان .
والإيمان الذي نعنيه , هو الذي ينمّي في الإنسان حوافز الخير , وكراهية الشر , ويملأ ما بين جنبيه شوقاً إلى التزكي , ورغبة في الترقي من جاذبية الطين الأدنى , إلى أفق الروح العليا , وهو الذي يعطي الإنسان الطاقة والقدرة للتحليق بأشواقه الصاعدة , فوق مستوى الغرائز الهابطة . وهو الذي يهب الشباب في عنفوانه أمام الشهوات العارمة إرادة كإرادة يوسف الصديق , تقبل ذل السجن , وترفض إغراء المعصية , وشعاره : (رب السجن أحب إلي مما يدعوني إليه)
إن الإيمان الذي ننشده , هو وحده الذي تنبت في تربته شجرة الأخلاق , وتنمو في ربوعه أزهار الفضائل المثلى , والقيم العليا , ولقد أثبت التاريخ والواقع , أن الأمم بدون أخلاق , لا تنهض بعبء جسيم , ولا تقوم بعمل مبدع .
وإن أمة بلا أخلاق , كبنيان بلا أساس . فهو مهما علا وامتد حتمي الانهيار , ورحم الله شوقي إذ قال :
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم * فأقم عليهم مأتماً وعويلا !
ولطالما حاول كثير من الحكام والزعماء والمسئولين , أن يضبطوا سلوك مجتمعاتهم بالقوانين والقرارات وحدها , ناسين أن الإنسان إنما يقاد من داخله لا من خارجه , فلم تغن عنهم قوانينهم ولوائحهم شيئاً , وعادوا بالخيبة والخسران , وغلب الهوى على الحق , والأنانية على الخير , وعلا صوت الشهوة على صوت الواجب , ولا غرو أن شاعت جرائم كبيرة وظهرت مآس وفضائح على أعلى المستويات . وكان مما كتبه أحد القضاة في بريطانيا تعليقاً على الحكم في إحدى هذه القضايا الكبيرة المثيرة: بدون قانون لا يستقر مجتمع , وبدون أخلاق لا يسود قانون , وبدون إيمان لا تسود أخلاق !
والإيمان هو الذي يفجر الطاقات الكامنة في إنسان شعوبنا المسلمة , فتندفع بقوة العقيدة في الله وفي دار الآخرة , ليزرع الأعاجيب , ويصنع البطولات , وينشئ الروائع , كما رأينا ذلك في التاريخ الماضي , وفي الواقع الحاضر .
إن الإيمان هو الذي يحل مشكلة النزعة الذاتية الفردية عند الإنسان – وهي نزعة فطرية ذاتية – حين يعلمه أن ما يقدمه من خير , وما يضحي به من جهد , وما يبذل من مال أو نفس , لن يضيع عند الله منه مثقال ذرة , بل كله مكتوب له , ومردود إليه , ومضاف إلى رصيده عند الله : (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) ، (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن و فلا يخاف ظلماً ولا هضما ) ، (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تلك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجر عظيما)
والإيمان هو الذي يضع بين يدي الإنسان قوة هائلة , حين يغرس في نفسه : أن قدر الله نافذ لا محالة , وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه , وما أصابه لم يكن ليخطئه , وأن ما يخاف عليه الناس من رزق وأجل , مكتوب عند الله , لا مجال فيهما لزيادة أو نقصان , فالأرزاق مقسومة والآجال معلومة , ولو اجتمعت الأمة على أن ينفعوا أحداً بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له , ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه .
هذا اليقين بالقدر , يجعل المؤمن به يشعر أنه في جهاده ودعوته يمثل قدر الله الذي لا يرد , وقضاءه الذي لا يغلب ، كما قال أحد الصحابة في حرب الفرس لأحد قوادهم , وقد سأله : من أنتم ؟ فقال : نحن قدر الله ! ابتلاكم الله بنا , كما ابتلانا بكم , فلو كنتم في سحابة لصعدنا إليكم , أو لنزلتم إلينا!
والإيمان كذلك هو الذي يوثق الروابط بين أهله , فيجمعهم في ظل الآخرة , ويصل بينهم بأوثق عرى المحبة , فالإيمان رحم بين أهله كما قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة).
وإذا كانت هناك أشياء تفرق بين الناس بعضهم وبعض , من اختلاف العرق أو اللون أو اللغة أو الإقليم أو الطبقة أو النسب أو الثروة أو غير ذلك , مما يحجز الناس بعضهم عن بعض , فإن الإيمان بحرارته وقوته هو الذي يذيب هذه الحواجز , ولا يعترف بها , ويجعل من وحدة العقيدة رابطة فوق رابطة الدم أو أقوى , ولحمة كلحمة النسب أو أوثق . حتى إن المؤمن ليؤثر أخاه في العقيدة على أخيه من النسب , بل على ابنه من الصلب .
وفي رحاب هذه الأخوة الكبيرة , تختفي الأحقاد الصغيرة , وتهون الدنيا التي يتهارش عليها الناس , وهي أهون عند الله من جناح بعوضة , وتنكمش مشاعر الحسد والبغضاء التي سماها النبي – صلى الله عليه وسلم – (داء الأمم) وقال عن البغضاء بحق : إنها الحالقة , لا بمعنى أنها تحلق الشعر , ولكن تحلق الدين .
ولا يقف الأمر عند سلامة الصدر من الحسد والبغضاء , بل يعمر القلوب حب كبير , منبثق من حب الله تعالى , إنه حب لكل من والاه وآمن به .
حيث يرتفع بالإنسان من الأنانية الدنيا إلى الغيرية العليا . وفي هذا جاء الحديث الصحيح : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ، (والذي نفسي بيده , لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا , ولن تؤمنوا حتى تحابوا).
وتتمثل الغيرية في أجلى صورها عندما تتجسد في هذا المعنى الذي لم يعرف ولن يعرف في غير مجتمع المؤمنين , وهو معنى (الإيثار) أن تجود بالشيء لأخيك وأنت محتاج إليه , وأن تتعب ليرتاح أخوك , وتعرض صدرك لتلقي ضربات السيوف وطعنات الرماح لتحمي أخاك ، وأن تبيت على الطوى لتقدم كل ما عندك من زاد عشاء لأخيك . وهذا هو الذي وصف الله به الأنصار في قوله : (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون(
وهنا تتحول المشاعر الرقيقة من الأخوة والمحبة والإيثار إلى تلاحم في الخير , وتراحم في السراء والضراء , وتعاون على البر والتقوى , صوره النبي بقوله : (المؤمن للمؤمن كالبنيان , يشد بعضه بعضاً) ، (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد , إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)