حاجة الأمّة إلى فقه الواقع واستقلالية الفقيه
بقلم سلطان بركاني
أثبتت النّكبات المتوالية التي تكبّدتها الأمّة خلال العشريتين الأوليين من القرن الحادي والعشرين، مدى حاجتها إلى إعمال وإشاعة الفقه المقاصدي، بإزاء الفقه الظّاهري المعاصر الذي انتشر وشاع في العشريتين الأخيرتين من القرن العشرين وتسبّب في إرباك الساحة الدعوية والإسلامية، وأدّى إلى خلخلة سلم الأولويات، وأسّس لفقه الفرد في مواجهة فقه الجماعة، وفقه الطّائفة بإزاء فقه الأمّة، فشاعت بين شباب الصّحوة مصطلحات “الفرقة الناجية” و”الطّائفة المنصورة”، وقصر الاهتمام على العبادات الفردية، وأهمل الاهتمام بواجب الإصلاح الجماعيّ.
أدّى تضخيم دور الفقه الظّاهريّ الفردي وفقه الطّائفة، أواخر القرن العشرين، إلى زعزعة مفاهيم الولاء والبراء، حتى صار المسلم المخالف عند بعض شباب “الصّحوة الإسلامية” أشدّ خطرا من اليهوديّ والنّصرانيّ، وصارت الجماعة غير الموافقة أشدّ خطرا من الصهيونيّ المحتلّ!.. وأصبحت غالب النّقاشات تدور –بنفَس حادّ- في مسائل الفقه الفرعية، وأُفردت مصنّفات كثيرة ملأت ما بين المشرقين تحمل عناوين مفزعة تُشعر من يطالعها بأنّ القضية تتعلّق بحرب تُشحذ لها أمضى الأسلحة وأشدّها فتكا!
ليس منكرا ولا عيبا أن يهتمّ شباب الأمّة بمسائل الفقه الفرعية، ويتعلّموها ويُشيعوا تعلّمها، لكنّ المشكلة عندما تصبح هذه المسائل مدار الرّحى والهمّ الأوّل والأوحد الذي يتنافس فيه شباب الأمّة، في وقتٍ كيانُ الأمّة يُنتقص من أطرافه ووجودها يهدّد ودينها يرام تحريفه، ويُمكر بها مكرٌ تزول منه الجبال، ويتّسع الخرق على الرّاقع عندما يصرّ بعض شباب الصّحوة على النّظر إلى فقه الأمّة وفقه الواقع على أنّه في أحسن أحواله “ترف”، بل لعلّه من خصائص أهل البدع والهوى والرّأي!
إنّه لمن المؤسف حقا أن يكون علماء الأمّة وأعلامها قد تفطّنوا إلى أهمية فقه الأمّة وفقه الواقع في قرون وأزمنة لم تكن فيه التحديات التي تواجه الأمّة والمكر الذي يحاك لها، بمثل التحديات والمكر الذي تواجهه الأمّة في هذا الزّمان الذي يصرّ فيه الظّاهريون الجدد على تزهيد شباب الأمّة في خوض تحدّي فقه الواقع وفقه الواجب فيه!.. قبل 7 قرون، كان الإمام ابن القيم (توفي رحمه الله سنة 751هـ) يقول: “ولا يتمكّن المفتي والحاكم من الفتوى والحكم بالحقّ إلا بنوعين من الفهم”، ثمّ ذكر: “أحدهما: فهم الواقع، والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأماراتوالعلامات، فالعالم يتوصّل بمعرفة الواقع والتفقّه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله في المسألة”، ويقول في موضع آخر: “والواجب شيء والواقع شيء، والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب”.. هذه الحقيقة كانت من المسلّمات عند أعلام الأمّة على مرّ القرون، وكان الفقيه الحقّ هو الذي “يعرف الواقع ولا يجهله، ويلتفت إليه ولا يلتفت عنه، يُعمله ولا يهمله، يبني عليه ولا يبني في فراغ”.. لكنّ كثيرا من شباب الأمّة في هذا الزّمان سُوّل لهم بأنّ فقه الواقع يعني أن يكون الواقع حاكماً على النّصوص، يؤوَّل بعضها تأويلات بعيدة ويهمَل بعضها الآخر، لأجل موافقة الواقع! وهذه فزّاعة لا حقيقة لها ولا يدعو إليها أحد من علماء الأمّة المعتبرين الذين اهتمّوا بفقه الواقع ورابطوا لإشاعته، وبيّنوا أنّه يعني الاهتمام بكيفية تطبيق النصوص على الوقائع وإنزالها عليها، وهو ما يعبّر عنه علماء الأصول بـ”تحقيق المناط”، وكذا الاهتمام بالاجتهاد السائغ شرعاً فيما لا نصّ فيه من الوقائع المتجددة.
لقد أريد لشباب الأمّة أن يزهدوا في الواقع وفي فهمه وفقهه، ليعيشوا زمانا غير زمانهم، ويحملوا هموما ربّما تقصر عن هموم أمّتهم، ومِن ثمّ يسهل توجيههم وربّما تسخيرهم في معارك خاسرة ظالمة، ضدّ مشروع أمّتهم، يقودهم فيها رؤوس متعالمون زهدوا في فقه الواقع وتشبّثوا بظواهر نصوص منتقاة من بين نصوص كثيرة لا يُستغنى عنها، مع فهم الواقع، لمعرفة الموقف الصّحيح الواجب اتّخاذه.
المعلومة القاصرة والفقه الرّسميّ!
بإزاء الفقه الظّاهريّ الذي شاع ولا يزال شائعا في أوساط كثير من شباب الأمّة، هناك فقه آخر لا يزال يأخذ حظّه في تأخير الأمّة عن خوض معاركها المصيرية، هو الفقه الرّسميّ الذي يراد له أن يبقى مرتهنا للمعطيات التي تجود بها الجهات الرسمية وتضعها بين أيدي الفقهاء الرسميين، ليصدروا الفتاوى الرسمية المراد لهم إصدارها، بعيدا عن تمحيص المعطيات المقدّمة ومراجعتها والنّظر في مصداقيتها ومدى مطابقتها للواقع.
في كلّ مرّة تنزل بالعالم نازلة يصيب شررها دول المسلمين، تنطلق المؤسّسات الفقهية الرسمية في مختلِف البلاد الإسلاميّة، لتُبدي رأيها في تلك النّوازل بناءً على ما يوضع بين أيدي فقهائها من معلومات غالبا ما تكون قاصرة عن الإحاطة بكلّ حيثيات النّازلة، وغالبا ما تكون هذه المعلومات هي القدر الذي تسمح “المؤسّسات الرسمية العالمية” بمعرفته، والتي بدورها لا تذيع إلا ما تسمح به الدّول الكبرى!
على هذا الأساس، لا يُستبعد ولا يُستغرب أن تَصدر عن المؤسّسات الفقهية الرسمية فتاوًى تكون مطابقة لما هو مرغوب ومطلوب! ما يؤكّد مسيس حاجة الأمّة إلى مؤسّسات فقهية مستقلّة وكبيرة تسخّر لها كافّة الإمكانات وترصد لها وسائل الوصول إلى المعلومات، وينضوي تحت لوائها علماء الأمّة المتبحّرون في الأصول والمقاصد الذين يستعينون بدورهم بالعلماء في مختلف التخصّصات للوصول إلى المعلومة الصّحيحة من مَعينها، لبناء الفتاوى الصّحيحة على أساسها.
شباب الأمّة يعيشون زمن الفضاء المفتوح، وينتظرون أن يجدوا لدى علمائهم عامّة وفقهائهم خاصّة القول الفصل فيما يختصم فيه المختصمون مدعّما بنصوص الشّرع وحقائق الواقع، وهي الأمنية التي –ربّما- يصعب تحقّقها في ظلّ الواقع الذي تعيشه الأمّة، لكنّ تحقّقها ليس مستحيلا.
(المصدر: صحيفة البصائر الالكترونية)