مقالاتمقالات مختارة

جولة في الحرمين .. لماذا اختفت الآثار النبوية ؟

جولة في الحرمين .. لماذا اختفت الآثار النبوية ؟

بقلم عزمي عبد الرازق

الطريق إلى مكة ليس أجمل من مكة بالطبع، لكنه يقودك عبر منعطفات عديدة إلى مواقع جديدة لن تألفها بسهولة، ونقاط عبور تتفرس في وجهك بتحفز بالغ، وشجون أقرب إلى الروح، فهى ليست مجرد مدينة، أو مكان للصلاة والمقيل العابر، وإنما بلد كل مسلم، يعرف مكة، وربما لا يتعرف عليها جراء التغيرات التي طرأت عليها.

ثمة غزوات ثقافية طمست التقاليد البدوية نسبياً، صور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أخذت الطابع الملوكي ، تبدو أكبر وأكثر سطوة حالياً، ولكنها سطوة أيضاً يشعر حيالها أي مهاجر مكفول، أو مقيم بعدم الأمان، إما أن يدفع ثمن بقائه أو يغادر.

الشرطة الدينية:

لم ألحظ اطلاقاً النشاط المحموم الذي كانت تقوم به هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك التي كانت تعرف (بالشرطة الدينية) اختفت بالمرة تقريباً، وقد تنفست الفتيات أخيراً الصعداء، وحصلن على قدر من الحرية، لا يبدو أنهن يعرفن ماذا يفعلن بها بعد، أكثر من قيادة السيارة، وارتياد المناسبات التي تنظمها الهيئة العامة للترفيه، كمتنفس من الكبت الطويل، بينما الأزياء لم تتغير إلا في مناطق محدودة جداً، تقاوم فيها بناطيل الجينز ثقافة ارتداء الزي التقليدي، كما يحاول هذا الجيل التمرد على سُلطة المجتمع بطريقة عنيفة، لا مفر أمامها اليوم إلا مسايرة تواقه للحرية

تتجول اليوم في مكة فلا ترى مكة، تبدو لك مدينة من طراز حديث، سلسلة شاهقة من غابات الإسمنت وتعاريش المارسيليا والكلادينج، فيما يشبه خليطًا من لاس فيغاس وسابورو، كما لم يعد أفقها محاطا بالجبال، التي نهضت عليها قيمتها الثقافية والدينية، ثور وحراء وعرفات، وبئر زمزم الذي تروى منه ولا تعرف مكانه بالضبط.

يكاد قلبك ينفطر لمشهد بيت السيدة خديجة وبناتها أمهات المؤمنين، أو دار الندوة حيث كانت قريش تجتمع للتشاور والسقاية والرفادة وإطعام الحجيج، ومضارب الخيام الأولى، والمباني العتيقة الأثرية،  مسجد بلال الذي يعود تاريخه لزمن الإسلام المبكر، وبيوت الخلافة بمشربياتها ونوافذها القصيرة، كلها اليوم غطى عليها ظل برج الساعة الهائل، غطى على الميتاتاريخ كله، رغم أن أهمية مكة تنبع من أنها مكة التي هى في الخاطر، والسيرة النبوية، بطبيعتها القاسية التي تسفر عنها قبة السماء، كانت مدعوة لتنظيم وتدبير القوة الجديدة للعروبة البدوية، كانت الظاهرة القرشية الأولى ومع ذلك كانت أكثر امتلاء بمعاني المستقبل .

إخفاء مكة عن الوجود

هنالك محاولات لشق الجبال، مسكن الجن وجبل عمر الذي تحول إلى وحدات سكنية، بينما تعددت طوابق الطواف والسعي، حتى تبدو لك الكعبة المشرفة من علو شاهق، دون ذلك المشهد القابع في الذاكرة وأنت تتطلع إليها بشغف، عدد الحجاج والمعتمرين في ازدياد سنوياً بشكلٍ مضطرد، وهى معضلة تجد السلطات السعودية أمامها في مشكلة حقيقية، تعمل جاهدة على مشروع التوسع، كخيار لا مفر منه تقريباً، لكنه يخفي مكة عن الوجود، ويجعل الأبراج تتسيد على قدسية المواقع الروحية، بشكل مرعب، يستدعي نيتشة في جنالوجيا الأخلاق” إذا كان معبد على وشك أن يشيد وجب هدم معبد” أو هكذا تتنامى المخاوف .

كانت مكة إلى وقت غير بعيد، كما وصفها ابن خلدون “لُحمة ظاهرة بين البنائين” وقد حافظت على ألقها الروحي، في مولد المصطفى، حيث كانت دار عبد المطلب التي انبثق فيها نور النبي أول مرة، ومكانها في سوق الليل، أو ما اشتهرت بشعب بني هاشم، لكنها توارات في ظل التوسع العمراني، أسواق وفنادق تحولت إلى مساكن للأمراء الأثرياء، وهذا لا ينفي بالطبع جهود مقدرة لتجنب الزحام والموت، تأمين الصلاة والطواف من قبل شرطة الحرم، لكن التوسع في المواعين لا يتنافى أيضاً مع أهمية الحفاظ على المواقع الأثرية، للمرور عليها، وأخذ العبر والاعتبار، فكل آثر قديم وراءه قصة موحية تستغرق الإنسان المسلم.

لا يختلف المشهد في المدينة

في المدينة لا يختلف المشهد كثيراً، وإن كانت مواعيد زيارة الروضة الشريفة مخصصة عبر باب السلام، في أوقات محددة، وطريقة عبور لا تسمح بالإشارات التي تتنافي مع التوحيد، وهى طريقة تنظيم تقوم بها شرطة الحرم المتخصصة، تبدو لافتة جداً في زيارة مقابر الصحابة /البقيع/ بينما أغلقت مساجد كبار الصحابة على الجهة الغربية الجنوبية للمسجد النبوي الشريف، منها مسجد أبوبكر الصديق الذي بني في إمارة عمر بن عبد العزيز، وأعاد ترميمه السلطان العثماني محمود الثاني، وبقى مكان الوحي ومهبط ناقة النبي دون دليل، وكذلك قبور بعض الصحابة أيضاً بلا شواهد، إن لم تكن خبيراً أثرياً ملماً بالتفاصيل لن تحيط بها بسهولة .

تبدو المدينة أكثر رحابة وطمأنية، ومع ذلك كم هى جميلة مكة، حقل من الأشواق الدينية، طقس سماوي بديع،  موصولة بأسرار الكون، مطهرة للطائفين والقائمين والركع، كانت وستظل عروس الصحراء، نفحة العطر المقدس، متكأ المتعبين، مُذ كانت إبل عبد المنطلب تأكل من خشاش الأرض، وكان ولا يزال وسيظل للبيت رب يحميه .

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى