مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٩٨) .. مقومات الوعي الجمعي(٨)

جواهر التدبر (٢٩٨)

مقومات الوعي الجمعي(٨)

بقلم أ.د.فؤاد البنا

– استيعاب خارطة الثوابت والمتغيرات:
أعتقد أن أهم خصائص الإسلام بعد الربانية هي جمعه المتسق بين ثبات الأصول والكليات والمقاصد وبين مرونة الفروع والجزئيات والوسائل؛ ذلك أن هذه الخصيصة ثمرة لتمازج النقل والعقل، النقل الذي تنهمر منه أصول الهداية الموصلة للناس إلى سواحل التقوى، والعقل الذي يجيد تنزيل نصوص النقل على الوقائع بما يضمن تحقيق مصالح الناس ومراعاة الفروق الفردية والأعراف الاجتماعية بينهم. وبذلك التمازج يتم الجمع بين الأصالة والمعاصرة.
وبخصيصة الجمع بين الثبات والتغير يمتلك المجتمع جناحي الوحدة والحرية اللذين يحلق بهما في سماء الفاعلية، الوحدة التي تتحقق عبر  الالتزام الصارم بالثوابت، والحرية التي تسمح للمتغيرات بالانبثاق التلقائي فيجتهد المجتمع في كل جديد أو يقتبس ما يناسب تكوينه وظروفه ومصلحته!
وقد أثبت استقراء الوقائع في حياة المسلمين أن أحد منابع الضخ للتفرق في واقعهم هو الخلط بين الثوابت والمتغيرات؛ فقد تأكد بأن محاولة التوحد في المتغيرات من أسباب التفرق، مثلما أن التعدد في الثوابت منبع للتفرق الذي يوقع أصحابه في عذاب التخلف والهوان وانطفاء الفاعلية الحضارية، فضلا عن العذاب الأخروي.
وفي إطار هذا الخلط وجدنا مسلمين يعتقدون أن قوة المسلمين تكمن في وحدتهم التي تلغي ما يوجد في واقعهم من مذاهب فقهية وتيارات فكرية وطرق صوفية وأحزاب سياسية، وتجعلهم قوالب متشابهة، وهذا الإلغاء غير سليم ولا ممكن، فإن التعدد من سنن الله والتنوع ثراء كبير وقوة خارقة!
وقد ضرب الله لنا مثلاً على هذا الأمر من الطبيعة بالأزهار التي تختلف ألوانها وتتعدد روائحها ويتنوع رحيقها، لكنها عندما تمتزج في بطون النحل تصير مادة أخرى ذات خصائص فريدة وثمار مفيدة، ويمكن عَنْوَنة هذه الثمار بالعسل الذي يتضمن الشفاء للناس، حيث يُقوّي أجهزة المناعة في أجسام الآدميين ويجعلها عصية على الأمراض وعوامل الوهن، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {يَخرُج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانه فيه شفاء للناس} [النحل: ٦٩]. وقد أجريت تجارب كثيرة على العسل فوُجد أنه أقوى عنصر لتقوية المناعة، بسبب التنوع الآتي من كل الأزهار والثمار!
وقد يستغرب بعض القراء من ضرب مثَل العسل في مقام الحديث عن أهمية التعدد في مجال المتغيرات، والجواب بأن لهذا المثل القرآني غاية فكرية مخفية بجانب الفائدة المباشرة، فقد ختم الله الآية السابقة بقوله تعالى: {إن في ذلك لآية لقوم يتفكّرون}، والتفكر سيقود إلى الاعتبار والاستفادة من درس التعدد الممتزج والمنساب نحو تحقيق نفس الغاية، وهذا يحتاج من المسلمين إلى مؤسسات ومراكز بحثية تقوم بدور النحل في اقتناص الرؤى والأفكار النافعة من أفواه وأقلام أصحاب الحكمة والخبرة، مهما كانت انتماءاتهم الدينية والطائفية والمذهبية والفكرية والسياسية، ثم تتولى مزج هذه الأفكار والرؤى بمقادير دقيقة في بطون التشارك والتشاور والتثاقف الذي يظهر الحقائق كاملة دون أن يفسد الأخوة والمودة، ثم يخرج منها رحيق الفكر الذي يمنح أمتنا النفع والقوة والفاعلية!
وفي هذا المضمار أخبرنا القرآن الكريم أن طاعة الله ورسوله لا تكفي للإبقاء على جماعة المسلمين موحدة، مع أن اعتناق الجميع للثوابت التي جاء بها الله ورسوله يمثل أساسا متينا للوحدة المطلوبة، لكن المتغيرات إن لم تُضبط عبر نظام صارم ومشاورة منظمة، فإنها ستصير سبباً للتنازع الذي يجلب الفشل ويتسبب بذهاب الرّيح، ومن هنا فقد ورد قوله تعالى: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: ٤٦].
ولعدم إدراك بعض متديني عصرنا للتفاعل الواجب مع الثوابت والمتغيرات، فقد وجدناهم يُطبِّقون الأمر الوارد في الآية السابقة ولا يلتزمون بالنهي؛ مما جعلهم سبباً لتفرق جماعاتهم ومجتمعاتهم، عَبْرَ احتكارهم للحقيقة وتَملّكهم للحقّ، وعَبْرَ رفضهم للمشاورة وإصرارهم على تمضية آرائهم بحسبانها الحق الذي ليس بعده إلا الضلال!
وقد يتساءل أحدنا فيقول: لماذا استخدم الوحي فعل الأمر في الحديث عن وحدة الثوابت، وصيغة النهي في حديثه عن التنازع على المتغيرات؟
ويتبدى لي في الجواب أن الثوابت محل قبول وتقدير كل من يمتلك الحد الأدنى من الإيمان؛ لأنها واردة بنصوص قطعية، والاختلاف حولها ضعيف الورود، ومن يصر على شذوذه سيقف الجميع ضده نتيجة إيمان عامة المؤمنين بقداسة الوحي.
أما في المتغيرات فإن التعدد مؤكد والاختلاف ضروري، وهنا قد تختلط الدوافع العبادية النقية بالدوافع الذاتية السقيمة، ومن ثم فإن حضور الشخصانية وعدم الفقه بالمقاصد، مع غياب فقه الخلاف وآداب الحوار، قد يتضافران في نقل الاختلاف إلى دائرة التنازع المُفسد للقلوب والمُذْهب للرّيح، فجاء النهي الحاسم عن التنازع والتحذير من أضراره!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى