جواهر التدبر (٢٨٩)
الذين يعادون أنفسهم
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– ظلم النفس:
ذكر الله أن الناس يظلمون أنفسهم في ١٣ موضعا، وورد هذا المعنى بصيغ وأساليب متنوعة في عشرات المواضع من القرآن.
وكل ذنب يقترفه الإنسان من الذنوب التي توعد الله مرتكبيها بالنار هو ظلم للنفس؛ ذلك أنه تجاوز حدود الله الثابتة بقرآن محكم، كما قال عز من قائل: {ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه}[الطلاق: ١]، ذلك أن تجاوز حدود الله يفضي بالضرورة إلى ظلم الغير من البشر، ومن يظلم غيره في الدنيا فإنما يظلم نفسه في الدنيا والآخرة.
ولقد قال موسى لقومه: {يا قومي إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل..}[البقرة: ٥٤]، واتخاذ العجل ظلم للنفس لأنه امتهان لكرامة مخلوق كرمه الله وأسجد له ملائكته، ثم إنه صورة من صور الشرك والكفر التي تستوجب النار؛ كما قالت ملكة سبأ عندما تعرفت على دين التوحيد عبر نبي الله سليمان: {ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} [النمل: ٤٤]، وحينما قتل موسى قبطياً بالخطأ وهو يدافع عن واحد من قومه تقوى عليه ذلك القبطي، قال: {ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له} [القصص: ١٦].
ويبدو أن مواجهة ظلم النفس تتم من خلال أمرين أساسيين:
الأول: تذكّر جلال الله والاستغفار الخالص من الذنب، كما قال تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم…} [آل عمران: ١٣٥]، فتذكر الله هو إفاقة من غيبوبة الغفلة المفضية إلى غياب الوعي وظلم النفس.
الثاني: المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب الاستغفار منه، كما قال تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} [النساء: ٦٤]، ونلاحظ دقة التعبير القرآني الذي يحرر الناس من التعلق بغير الله، فالرسول لا يملك لنفسه شيئا فضلا عن أن يملك للناس شيئا؛ ولذلك فإن ذهابهم إلى الرسول ليس لطلب النفع ودفع الضر منه، فهذا الأمر لا يمتلكه أحد سوى الله، وإنما لطلب الاستغفار منه بجانب استغفارهم لأنفسهم!
ومن الواضح أن الأمرين يتعلقان بالله وبرسوله، بجانب الاستغفار الذي هو ملك الذات في الحالين، وكأن القصد من الأول تذكر رقابة الله وتخيل نعيمه لمن التزم بتوجيهاته، وعذابه لمن عصاه وخالف ما دعا إليه، بينما المقصد الثاني هو اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع النصوص حتى لا يقع المرء مرة أخرى في هاوية العصيان!
– المصيبة النفسية:
من المعلوم أن الله خلق الإنسان حرا مريدا مختارا، وجعل الاختيار مناط التكليف، حتى أنه لا ثواب ولا عقاب إن فعل الإنسان ما فعل من طاعة أو معصية رغم أنفه!
وأجرى الحياة وفق سنن مطردة وثابتة، وبيّن للإنسان الخير والشر، النفع والضر، ورغّبه بالطاعة وحثّه عليها وكرّهه بالمعصية وحذره منها، ومن ثم فإن المصيبة إذا أصابته فلا يلومن إلا نفسه، فلا مصيبة من غير سبب اجترحته يداه، كما قال عز من قائل: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك}[النساء: ٧٩]، وكما ينطبق هذا الأمر على الفرد فإنه ينطبق على الجماعة، كما قال عز من قائل: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم..}[الشورى: ٣٠]، وأكبر مصيبة للمجتمعات هي الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي، حيث يستجلبان الغضب الرباني والنقمة الإلهية، وتفعل السنن فعلها في سقوط الدول وانحلال الحضارات!
– خسارة النفس:
من المؤكد أن الذين يظلمون أنفسهم إن لم يتوبوا توبة تمتلك الأهلية للقبول من الله وهي التوبة النصوح؛ فإنهم سيخسرون أنفسهم يوم توضع الموازين القسط وتنبعث مظالم الشخص لنفسه، كما قال عز وجل: {ومن خفّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون}[الأعراف: ٩]. والظلم بالآيات يكون بالجحود بها، بحيث لم يعمل الواجبات التي تمنحه التنعم في الجنان الخالدة، ولم ينته عن المحرمات التي تقود أصحابها إلى الخلود في لجج الجحيم، وهذه هي خسارة النفس، إذ لم يخسروا النعيم الخالد فقط لكنهم كسبوا السيئات التي أوردتهم النيران الأبدية!