جواهر التدبر (٢٨٨)
تجفيف منابع العصبيات
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– واحدية الأصل الإنساني:
تكلم القرآن صراحة في عشرات الآيات عن واحدية الأصل الإنساني، سواء في الخلقة المادية الأولى من نفس التراب ثم النفخ فيها من روح الله، أو في الخلقة الثانية من آدم ثم من آدم وحواء، وهناك آيات تؤيد نفس المعنى ولكنها تحتاج إلى شيء من التأمل حتى يتم استخراج هذا المعنى من ظرفه الكلامي، مثل قوله تعالى: {والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا…} [فاطر: ١١]، ولما كان الله يخاطب جميع البشر بصيغة الجمع، فمن المفترض وفق السياق اللغوي أن يتم التحدث بصيغة الجمع للتراب والنطفة، لكنه لم يفعل ذلك بل لجأ إلى المفرد حتى يؤكد على وحدة الخلقة الأولى، فآدم مخلوق من تراب واحد وأبناؤه تناسلوا من نطفة واحدة التي هي نطفته الأولى المودعة في رحم حواء المخلوقة من ضلعه، وهذا ينسف دعاوى التميز العرقي والسلالي، ويؤكد التساوي بين جميع البشر، وهي الحقيقة التي يقررها القرآن في عشرات الآيات القرآنية بمختلف الأساليب والصيغ، ومنها هذه الصيغة التي تحتاج إلى قدر من التأمل.
– كرامة الخَلق والأمر:
من المعلوم لكل مؤمن أن الله هو صاحب الخلق والأمر في هذا الوجود، كما قال تعالى: {ألا له الخلق والأمر}، وبالنسبة لقيمة الكرامة التي منحها للبشر فإن لها مستويين متصلين بحقيقتي الخَلق والأمر، وذلك على النحو الآتي:
المستوى الأول: الكرامة المتصلة بالخَلق وهي الكرامة العامة الممنوحة لجميع البشر لكونهم بشرا خلقهم الله بيديه ونفخ فيهم من روحه وأسجد لهم ملائكته، وهي المذكورة في قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}.
المستوى الثاني: الكرامة المتصلة بالأمر، وهي كرامة نسبية اكتسابية، حيث لا ينالها إلا من أرادوها، من خلال معيار متاح لجميع الناس، وهو الالتزام بتطبيق أوامر الله واجتناب نواهيه في كل نواحي الحياة التي تمتد إلى بضع وسبعين شعبة ينبغي اتباعها، وفي الطرف المقابل توجد بضع وسبعون كبيرة، وعنوان ذلك كله التقوى، وقد ذكرت هذه الكرامة في قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} [الحجرات: ١٣]، وهذه الكرامة لا يعلم حقيقتها ومقدارها إلا الله تعالى، وهذا ما تشير إليه فاصلة الآية: (إن الله عليم خبير)؛ فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ ولذلك لا ينبني على التقوى حق دنيوي خلاف المعايير التي يتساوى فيها الجميع!
– توحيد مصدر التلقي:
أخبرنا القرآن أن الناس كانوا أمة واحدة ثم تفرقوا، ولكن متى حدث هذا التفرق؟.. بلا شك أن التفرق قد وقع حينما اتخذوا أربابا متفرقين بدلا من عبودية الواحد القهار، وكان الأوائل يعتقدون أنهم بذلك الصنيع إنما يتقربون بصالحيهم إلى الله زلفى، وربما ظن من قبلهم أنهم بذلك الانحراف يدخلون إلى الله من أبواب متفرقة!
ويبدو أن بذور آفة التفرق تعود إلى عدم تدبر الوحي، فإن كتاب الله يختلف عن بقية الكتب البشرية، فكلما أمعن المرء النظر فيه ظهر له الاتساق التام في مبانيه والتكامل في معانيه بأكمل صورة، بعكس كلام البشر فإن التعمق في قراءته يكشف فجوات من التناقض والتضاد الثاوية فيه؛ ولذلك قال عز من قائل: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.