جواهر التدبر (٢٨٢)
دور المعاصي في حلول الذل والهوان(٢)
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– مذلّة السيئات:
أخبرنا الله أن الذين يكسبون السيئات إنما يجلبون لأنفسهم أشكالا من العذاب الدنيوي والأخروي، ومنها عذاب الذل والهوان الذي يرهق أعصابهم ويريق ماء وجوههم تاركا إياها في حالة من التصحر، ويجعلهم محل سخرية الناس وتندرهم، فقال عز من قائل: {والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم….} [يونس: ٢٧].
وقد عبّر بفعل الكسب، وهو أمر إيجابي، عن اقتراف السيئات، وهو أمر سلبي، وذلك لأحد أمرين:
الأول: أن تكون الوسوسة الشيطانية والتسويل النفسي قد بلغا مبلغا بعيدا في التزيين له، بحيث اعتقد من قرارة نفسه أن اقترافه للسيئات إنما هو كسب كبير له، وبذلك فإنه ينضم بوجه من الوجوه إلى من وصفهم الله في آخر سورة الكهف {بالأخسرين أعمالا}، وهم {الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً}!
الثاني: أن يكون من باب السخرية منهم، مثل قول ملائكة العذاب لأبي جهل وهم يجرعونه ويلات جهنم: {ذُق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: ٤٩]، كما ورد في سبب نزول هذه الآية في كتب التفسير وأسباب النزول!
وكأن الله يقول لهم إن هذا هو كسبكم الذي أفنيتم أعماركم في تحصيله، وأنفقتم في سبيله الأموال والأوقات واستهلكتم الجهود والطاقات، وهذا يزيد من الألم النفسي عليهم بجانب العذاب الحسي!
– مسببات الخزي:
أورد الله تعالى أهم أسباب الخزي والذل في قوله عز وجل: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ثاني عطفه ليُضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق} [الحج: ٨، ٩]، والجدال في أمور مادية دنيوية من دون علم، أمر معيب إلى أبعد حد، فكيف إذا كان الجدال في حقيقة غيبية؟ وكيف إذا كان حول أمّ الحقائق ومبدع هذا الوجود ومالكه؟! وكيف إذا كان المجادل الجاهل يمتلئ ثقة بذاته إلى درجة الكبر والسخرية ممن يخالفه في جهله وأوهامه، وذلك بثني العطف أي لوي العنق كبرا وغمطا للحق؟ وكيف إذا كانت إساءة الأدب مع الله ليست مجرد موقف شخصي وإنما هي جزء من جهد مبذول لإضلال الناس عن سبيل الله؟!
وفي تعداد القرآن للأمور الثلاثة التي يفتقر لها المجادل، فإنه يشير إلى أن هذه الأمور قد تكون مسوغات للخوض في جدل موضوعي يبحث عن الحقيقة من دون تحيز، مع الاستعداد للتسليم لمن يمتلك الحجة والبرهان، وهي:
١- العلم:
يبدو أنه تعالى باستخدام كلمة (علم) وهي نكرة يقصد مختلف العلوم التي تتصل بقضية الألوهية من هذه الزاوية أو تلك، بما فيها العلوم الطبيعية، فقد ثبت أن الذين يتعمقون في علوم الطبيعة مع بحثهم الموضوعي عن الحقيقة، يدركون في منتهى المشوار أن وراء هذا الكون خالقاً قديرا وربا مريدا وإلهاً يفيض بالحكمة والرحمة، وكم من سمعنا وقرأنا عن عالم مادي بدأ الخوض في ميادين أبحاثه ملحدا وانتهى موحدا!
٢- الهدى:
والمقصود به البينات والمعالم والبراهين والحجج العقلية المنطقية التي تجعله مؤهلا للخوض في جدال يختص بوجود الله وصفاته، فوفاضه خال من الهدى ومليء بالهوى الذي يهوي بصاحبه في ظلمات الانحطاط ولجج الجحيم!
٣- الكتاب المنير:
الكتاب الذي يمتلك من ضياء الوحي ما يمكّنه من تنوير العقول وكشف معالم الطريق الصحيح، مفرقا بوضوح بين الحق والباطل، ومميزا الرشد من الغيّ.
وبالطبع فإن عقوبة الذين يُضلون غيرهم أكبر وأفدح ممن يقعون في الضلال الذاتي منكفئين على أنفسهم، ومن هنا فإن عقوبة المضلين هي الخزي في الدنيا وعذاب الحريق في الآخرة والذي نسبه الله لنفسه (نذيقه) مما يشير إلى فداحة الجرم، ثم إن الجزاء من جنس العمل؛ لأن الجرم وقع في حق الله.
أما الخزي فهو عنوان لعذابات نفسية وحسية مؤلمة جدا وخاصة على من اعتادوا ارتداء ثياب الكبر وسكنتهم مشاعر العجب لدرجة أنهم يلوون أعناقهم، وكأنهم يترنحون من شدة تأثير خمرة الكبر والغرور عليهم!