جواهر التدبر (٢٧٩)
مراكمة الزمان لأعمال الإنسان
بقلم أ.د.فؤاد البنا
يعد الفكر الجبري من الآفات التي أصابت الثقافة الإسلامية وأحدثت ثقوبا في فاعلية المسلمين، ومن صور هذه الآفة ذهاب أحد التيارات المحسوبة على الإسلام إلى القول بالجبرية الزمانية، من خلال الزعم بأن أمة الإسلام تسير دوما في منحنى هابط، وأن الزمان لا يأتي بخير لأن كل زمن أسوأ من الذي قبله، وهذا قاد إلى آفة أخرى وهي الجمود على تراث السابقين وتقليدهم من دون أي بصيرة تراعي تغير الزمان والمكان، وحجة هؤلاء أنه (ليس في الإمكان أحسن مما كان)، وأن الزمن لا يمكنه أن يأتي بأحسن ممن مضوا، وأن الأولين لم يتركوا للآخرين شيئا!
ولو تأملنا آيات القرآن الكريم لوجدنا أنها تنظر للزمان كآنية فارغة وأن الفرد والجماعة بإمكانهما ملأه بالخير أو الشر، بالتقدم أو التخلف، بالعروج أو الانحطاط، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله”!!
وينطبق هذا الكلام حتى على قلوب الأفراد، فمشاعر المرء وإرادته هي الأساس في أن يصبح من ذوي القلوب الضارعة أو من أصحاب القلوب القاسية، ودور الزمن مقتصر على إنضاج المشاعر التي تختلج في الجوانح، وكأنها تساعد الأقدار التي تتولى التيسير لا التسيير!
إن الزمن قد يكون عاملا من عوامل الخشوع أو سببا من أسباب القسوة، كما نستنتج من قوله عز وجل: {ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم…} [الحديد: ١٦]، فقد نزلت هذه الآية بعد أمد من إسلام قدماء الصحابة، ولنترك الصحابي عبد الله بن مسعود، وهو أعلم الصحابة بأسباب نزول القرآن وأماكن تنزلها، يخبرنا بما يعرفه عن هذه الآية، حيث قال: “ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: “ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله” إلا أربع سنين”. وذهب ترجمان القرآن عبدالله بن عباس إلى أبعد من ذلك حينما قال: “إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، فقال: “ألم يأنِ”: ألم يحِن للذين آمنوا، “أن تخشع”: ترق وتلين وتخضع قلوبهم لذكر الله…”؟!
ومهما يكن الفارق الزمني بين اعتناق الصحابة للإسلام وتنزل هذه الآية، فإن تأمل النص يشير إلى أن الزمن عامل إيجابي بالنسبة للمؤمنين في عملية اكتساب الخشوع، فالخشوع ثمرة من ثمار الإيمان الذي يزيد بزيادة الأعمال ويتعمق بتعمق المشاعر، وينقص بنقصهما، وما دام المؤمنون في حالة ازدياد في الحالة الطبيعية فمن المتوقع أن يصلوا إلى حالة الخشوع التام مع القرآن خلال أمد من الزمن، ولهذا قال لهم القرآن: ألم يصبح الوقت مواتيا لكي تفيض مشاعركم القلبية وتصيروا في حالة من الخشوع الذي يملأ قلوبكم بالخشية والرهبة والإجلال؟!
وكما يكون الزمن عاملا إيجابيا للمؤمنين في ازدياد الإيمان وتمكن الخشوع، فإن العكس صحيح تماما بالنسبة لمن لم يستوطن الإيمان قلوبهم، حيث تزداد سيئاتهم مع الأيام وخاصة أنهم حينما يتركون الإثم فإنهم يتركون ظاهره دون باطنه، ويميل تعاملهم مع الشعائر بشكل مستمر نحو الأداء الحرفي الخالي من الروح والجاهل بالمقاصد أو المتجاهل، ومع مرور الزمن تصبح الشعائر مجرد قوالب جوفاء وجامدة، لكنه لا يستطيع الانفكاك عنها، وكأنها جزء من العوائد الفردية أو التقاليد الاجتماعية!
وفي ذات الوقت فإن المرء يتعرض لانتقامها، حيث يسكنه شعور بتورم الذات لاعتقاده بأنه قد قدّم لله شيئا كبيرا، ويظل يقارن نفسه بمن هم أقل منه إيمانا وعملا فيزكي نفسه ويصيبه الغرور والعُجب، وكل هذا يورثه قسوة في القلب وتبلداً في المشاعر وجموداً في العين، وهذا ما حذر الله عباده من الوقوع فيه حينما قال في نفس الآية: {ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} [الحديد: ١٦]، وبالطبع فإن الفسوق يخرج من رحم قسوة القلب، مثلما أن الأعمال الصالحة تخرج من رحم القلب الخاشع المنيب!