جواهر التدبر (٢٧٨)
من زوايا الضعف البشري
بقلم أ.د.فؤاد البنا
من زوايا الضعف البشر
– تجاوز الغفار عن الضعف الترابي:
أخبرنا القرآن في بعض مواضعه بأن الإنسان كائن ضعيف، وأوجد الهادي منهجا للارتقاء بالإنسان من ثنايا ضعفه إلى فراقد القوة، وعنوان هذا المنهج هو الإيمان، بحيث كلما زاد الإيمان قلّ الضعف، لكن الكمال يظل مستحيلا، والعصمة ماركة خاصة بالأنبياء حينما يتعلق الأمر بالوحي والبلاغ!
ومهما كان صلاح الإنسان وتقواه فإن ضعفه البشري المنبعث من التكوين الترابي، يؤثر عليه في بعض الظروف والزوايا مع الاختلاف النسبي بين الأشخاص، ويظهر الضعف في شكل معاصي صغيرة وأخطاء وتجاوزات، يُنتجها النسيان أو ضعف الإرادة أو قلة التوفيق أو الاغترار بالذات أو الركون إلى الأعمال أو المقارنة بالأسوأ أو غلبة التيار الاجتماعي، وهذا ما نراه في الواقع العملي حيث يستحيل على أي امرئ الانفكاك من ضعفه تماما.
وحينما نقرأ قوله تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [طه: ٨٢]، فقد يتساءل البعض قائلا: إذا كان المرء قد تاب وآمن وعمل صالحا ثم استمر في اهتدائه وثباته على الطريق، فمن أي ذنب سيغفر الله له؟
وجواب هذا السؤال من وجهين:
الأول: أن المقصود به من اقترف الخطايا مهما كانت، ويؤيد ذلك أن الله استخدم مصطلح المغفرة الذي يتصل بالذنوب المقترفة في الماضي حينما يحضر الاستغفار، واستخدم فعل الاهتداء بعد التوبة والإيمان وعمل الصالحات، لما يحمل من معنى الثبات على الاستقامة وعدم الارتكاس ثانية في اقتراف الكبائر.
الثاني: أن المقصود به من كان سائرا على الدرب مداوماً على عمل الصالحات، لكنه لا يخلو من قصور هنا أو تقصير هناك؛ بسبب تركيبته البشرية؛ بدلالة أنه تعالى استخدم لام التوكيد (لغفار) مع صيغة من صيغ المبالغة (غفار) وهو على وزن فعال الذي يدل على الكثرة، وهذا يشير إلى كثرة الصغائر وتكرار الوقوع في اللمم، فما دام يؤدي الواجبات ويجتنب الكبائر ويحرص على عدم الوقوع في الصغائر، لكنه يقع بسبب ضعفه أو نسيانه، فإنه يمتلك عهدا من الله بأن يغفر له، وقد منحه الله محطات يومية وأسبوعية وسنوية للغفران والتنقية!
– مراعاة الاستطاعة:
من يتدبر القرآن الكريم يدرك أن الله يراعي ضعف الإنسان من خلال منظومة كاملة؛ حيث يأمره في التنزيل بالاجتهاد في بلوغ الوضع المثالي لكنه يراعي واقع الإنسان فلا يلومه على عجزه عن البلوغ، ولا يحاسبه إلا على قدر ما يملك من مواهب وقدرات وطاقات، ويؤكد الله مراعاته للفروق الفردية فيقول تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا} [التغابن: ١٦]، فالتقوى قيمة مطلقة ولذلك فإنها مطلوبة من المسلمين جميعا، لكن الاستطاعات نسبية، ولذلك فقد أكد الله أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، وقال: {لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها} [الطلاق: ٧] أي بحسب ما آتاها من مواهب وقدرات وطاقات.
– تمثيل مشاهد دنيوية:
قال تعالى عن تنعم أهل الجنة: {وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون. يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم} [الطور: ٢٢، ٢٣]، فما معنى التنازع هنا؟
ذهب عامة المفسرين إلى أن التنازع هنا يعني التعاطي، فكل شخص يأخذ كأس الخمر ممن بجانبه وهو يعطيه، لكن التنازع في اللغة العربية يحمل معنى الاختلاف والخصام، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، ومن ثم فإن معنى التعاطي غير دقيق!
وبعد تأمل النص وتدبره بدا لي أن الذين يتنازعون كأس الخمر هنا يتذكرون ضعف البشر في الدنيا فيستدعون مشهدا من مشاهدها، ذلك أن التنازع ظاهرة دنيوية ولا مكان له في الجنة، فكيف إذا كان التنازع على كأس خمر، والجنة تزخر بما تشتهييه الأنفس وتلذ الأعين؟!