جواهر التدبر (٢٧٤)
مخاطر ثقافة القطيع
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– خطورة ثقافة القطيع:
عندما يعطل البشر جهاز الوعي الذي أنعم الله به عليهم؛ فإنهم ينحطّون إلى دركة الأنعام فيخضعون لثقافة القطيع المتقاطعة مع الوعي الجمعي؛ إذ تحت دعاوى الوحدة واحترام العوائد الموروثة عن الأسلاف والتي ترقى إلى درجة الثوابت، تجرف ثقافة القطيع الأفراد بعيدا عن المقاصد النافعة والمصالح القطعية المشتركة، ولا تتورع في أغلب الأحيان عن الدوس على المنطق العقلي السليم تحت عناوين غرائزية ما أنزل الله بها من سلطان!
ولخطورة هذه الثقافة التي تتولد عن الأهواء المعاصرة والتقاليد الموروثة والأمزجة المتقلبة؛ فقد حذر الله نبيه محمدا من الانسياق مع الأهواء الجمعية مهما بدا بسيطا، كما قال تعالى: {ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} [المائدة: ٤٨]، ولخطورة الأمر فلم يكتف المولى بالنهي عن اتباع أهوائهم بل زاد بالتحذير من التعرض لفتنتهم، واستخدم مصطلح الفتنة ليقبح أمرهم ويوضح فداحة الخطب، والتحذير ينطبق على القليل مثل الكثير، ولذلك قال: {عن بعض..} مهما كان صغيرا أو يسيرا؛ ذلك أن الأمر هنا غير متعلق بالمصالح والمفاسد الاجتهادية النسبية وإنما بالقيم والمبادئ القطعية الثابتة!
– ثقافة القطيع وشجرة الزقوم:
تحدّث القرآن الكريم عن الذين يتقلبون بين لهب النيران فيأكلون من شجرة الزقوم ويشربون من الحميم ثم يرجعون إلى الجحيم، وبيّن بعد ذلك السبب في ورود النار، فقال عز من قائل: {إنهم ألفوا آباءهم ضالين. فهم على آثارهم يهرعون} [الصافات: ٦٩، ٧٠]، وهذا يعني أنهم دخلوا النار دون أن يكونوا أصحاب نفوس شريرة وقلوب دنسة أوخبيثة، لكنهم استمرؤوا رؤية آبائهم في الضلال فهرعوا مسرعين لتقليدهم من دون إعمال أبسط مدارك التفكير، وهذا هو جوهر ثقافة القطيع الذي يسير خلف قادته أو قواديه، وبدورهم فإن هؤلاء يسيرون خلف أسلافهم، والقاسم المشترك أنهم يسيرون إلى حتوفهم مغمضي الأعين ومن دون أدنى تفكير!
– استنقاع ثقافة القطيع:
بعث الله كليمه موسى عليه السلام في المجتمع المصري الفرعوني لا ليدعوهم إلى الإيمان بالله ولكن ليستنقذ بني إسرائيل من أغلال استعبادهم، وأخبرهم صراحة أن الله أرسله لهذا الغرض، فطلبوا منه برهانا على أنه مرسل من ربه، فأظهر لهم برهانين وليس برهانا واحدا وهما العصا واليد، ولأنهم منغمسون في ثقافة القطيع التي أصابها الاستنقاع فقد فرّوا من التسلسل المنطقي إلى اتهامه بأنه ساحر، ولما عاب عليهم موسى إطلاق كلمة السحر بما فيه من تزييف وتدجيل على الحق الذي يشع ضياؤه في الأرجاء، قالوا له: {أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين} [يونس: ٧٨]، وعند التمعن في هذا النص، نجد في كلام هؤلاء المعتوهين ثلاث آفات:
الأولى: أنهم أسرى لثقافة القطيع التي ورثوها عن آبائهم بعد أن أصابها الاستنقاع كما أسلفنا وصارت عاجزة عن استيعاب الحد الأدنى من متغيرات العصر، حيث قالوا: {أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا}، وفي استخدامهم لعبارة (لتلفتنا) برهان واضح على شدة تجذر طبائع القطيع فيهم، بحيث أصبح مجرد الالتفات أمرا في غاية الصعوبة معتبرين إياه جريمة لا تغتفر!
الثانية: ممارستهم لعملية إسقاط في قولهم {وتكون لكما الكبرياء في الأرض}، فهذه الكبرياء مستوطنة في قلوبهم وراسخة في أخلاقهم وسلوكياتهم، وما فرعون الذي دفعه كبرياؤه إلى ادعاء الألوهية إلا رأس هرم الطغيان في ذلك المجتمع!
الثالثة: السير خلف أوهامهم بأن موسى وهارون عليهما السلام جاءا للتبشير باليهودية بين المصريين، وهذا واضح من قولهم في آخر الآية: {وما نحن لكما بمؤمنين}، وغاية ما جاء به موسى وهارون هو الدعوة لإطلاق بني إسرائيل من أسر الاستعباد!