جواهر التدبر (٢٧١)
مصائب التفرق
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– الشقاق البعيد:
إن أسوأ أنواع الخلاف وأشدها عمقا وأخطرها أثرا، هو الاختلاف في آيات القرآن الكريم، سواء كان تأويلاً يخرجه عن بعض مقاصده أو تنزيلا يقيم بعضه ويترك بعضه الآخر من خلال التشيع لوجه واحد من وجهي الحقيقة الواحدة، وربما كان هذا الأمر هو ما يشير إليه قوله تعالى: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} [البقرة: ١٧٦]، ويشير حرف الجر (في) الذي يسبق الكتاب إلى أن الاختلاف في العمق وليس حول الاستنباط وطرائق الفهم والتنزيل، ورغم ما تحمل كلمة شقاق من معاني الافتراق والتباعد والتباغض والتعادي، فقد زادها الله تأكيدا بوصفها بكلمة (بعيد)، كأنه يقول بأن الاختلاف في القرآن يصل بأصحابه إلى منتهى التفرق والتباغض، وتصبح المسافة شاسعة بين كل فريق وآخر فكل طرف يلتزم شقا بعيدا عن الآخر ويصبحان كأنهما خطان متوازيان، من حيث صعوبة سماع كل شق للآخر واستحالة التلاقي!
– حساب التفرق في الدين موكول إلى الله:
أخبرنا القرآن الكريم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا علاقة له بتاتا بمن فرقوا دينهم وصاروا شيعاً لأفكار مبعضة أو حقائق جزئية أو للأشخاص الذين جعلوا القرآن عضين، إنما أمرهم موكول إلى الله يوم الدين، قال تعالى: {إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} [الأنعام: ١٥٩]، وهذا يدل على فداحة الخطب وعظم الخطيئة، فالله هو من سيتولى إخبار المفرقين لدينهم بما اقترفوه بنفسه، في مقابل ذنوب يشهد عليها الأنبياء، وذنوب يشهد عليها الملائكة، وذنوب تشهد فيها ألسنة الناس وأيديهم وأرجلهم!
– الاختلاف في الأفكار يقود إلى الاختلاف في الأفعال:
بعد أن دعا الله المؤمنين إلى التقوى وعدم الموت إلا على الإسلام دعاهم للاعتصام بحبله المتين وعدم التفرق؛ ذلك أن الابتعاد عنه مدعاة للتفرق، ودعاهم لتذكر نعمة الله عليهم في الائتلاف بعد أن كانوا مضرب المثل في الاختلاف، ثم دعاهم لتخصيص طائفة تفي بحاجة الأمة في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [آل عمران: ١٠٢ – ١٠٤]، وانتقل بعد ذلك لتحذيرهم من الوقوع في آفات التدين التي وقع فيها بنو إسرائيل وأهمها آفة التفرق، فقال عز من قائل: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران: ١٠٥]. والعاقبة واضحة في العذاب العظيم الذي يصيب من تفرقوا في دينهم، ولكن لماذا ذكر مفردتي التفرق والاختلاف؟
يبدو لي أن التفرق يشير إلى التفرق في الدين أي الأفكار التي سيتم صنع الحياة بموجبها، أما الاختلاف فيكون في الأفعال التي ستنبني على الأفكار، وهذا أمر طبيعي فإن الأفكار هي الحصان بالنسبة لعربة الأفعال؛ ولذلك فإن كثيرا من البراهين تؤكد صحة تشخيص من يرون بأن أساس أزمات أمتنا كلها هي الأزمة الفكرية، ولو صلحت الأفكار فإن الأفعال ستصلح إلى حد كبير. ولأن أسباب الاختلاف في الواقع العملي ليست قاصرة على اختلاف الأفكار بل هناك أسباب نفسية وقلبية، فقد ذكر الاختلاف بعد التفرق، والله أعلم !