جواهر التدبر (٢٦٩)
سلائق بشرية
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– الاستغناء يولّد الطغيان:
أخبرنا القرآن بأسلوب واضح بأن شعور الإنسان بالاستغناء عن غيره يولد الطغيان الكامن فيه من آثار القبضة الترابية، فقال تعالى: {إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى} [العلق: ٦، ٧]، وبجانب الوضوح التام أضاف النص التأكيد باستخدام حرفي اللام وإن!
ومن هنا فقد فتّت الإسلام السلطة عبر الشورى وتوزيع مقاليد المجتمعات بين الأمراء والعلماء وأصحاب الحسبة، وفتّت المال عبر أنظمة الميراث والصدقات والأوقاف والزكوات والهبات والنذور والهدايا، وشرع العديد من القيم النفسية والخلقية والإجرائية التي تمنع تورم الذات، وما على المسلمين إلا إعمال عقولهم في ابتكار المزيد من الأفكار والوسائل والأساليب والآليات التي تضمن أن لا يكون المال دولة بين الأغنياء منهم، وأن لا يتم توريث السلطة بعيدا عن الأمة ولا تجتمع مقاليد البلاد والعباد بيد شخص أو أشخاص قليلين، مع الاستفادة من تجارب وخبرات غيرهم في هذا المضمار!
– التقلب بين اليأس والفرح:
أورد الله بعض السلائق البشرية المنبعثة من أكدار التراب، فقال عز من قائل: {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور. ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور} [هود: ٩، ١٠]، وحينما يقول القرآن (الإنسان) فإنه يقصد كل واحد من الناس، حيث يتقلب الآدمي بين وضعين متناقضين دوما، فحينما يبتليه الله بالضراء تنبعث من بين أكوام التراب سلائق اليأس والقنوط والكفران، وعندما يبتليه بالسراء تنبعث في شخصيته أكدار الفخر والخيلاء والغرور وتنتصب أوهام التميز والعبقرية والتفوق، وبين منزلتي الكفور والفخور يترنح الإنسان وقد يخر صريعا فيخسر تقواه لصالح الفجور، ونلاحظ كيف استعمل القرآن أسلوب التوكيد في الحالتين، باستخدام حرفي التوكيد إن واللام؛ دلالة على أصالة هاتين السليقتين في تركيبة الإنسان، ومن ثم لا مخرج منهما إلا بما أورده الله في الآية التي أعقبت الآيتين السابقتين، وهي قوله عز وجل: {إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير} [هود: ١١]، بمعنى أنه لا خلاص من هذه السليقة إلا بالصبر على ابتلائي الشدة والرخاء وعدم الانجرار وراء مشاعر الطغيان أو الكفران، واستحضار القدَر الذي جعله الله ركنا من أركان الإيمان حتى يمنع الإنسان من الوقوع في فخّ الأسى على ما فات أو الفرح بما تحقق، ثم إدراك حقيقة الابتلاء عبر الانشغال بعمل الصالحات على كل الصعد مهما كانت الظروف والأسباب لأن وظيفته هي الانهماك في العمل العبادي حتى يأتيه اليقين.
وتشير الآية في خاتمتها إلى الضعف البشري، وهو سليقة أخرى، فتقول: {أولئك لهم مغفرة وأجر كبير}، حيث أن (المغفرة) تعالج ما قد يخفق فيه الإنسان من صبر في بعض الأحيان، رغم بذله الجهد لتجاوز مشاعر العُجب أو القنوط، وفي المقابل فإن (الأجر الكبير) لمن نجحوا في هذا الابتلاء الصعب وخرجوا سالمين من مخالجة هواجس التميز أو اليأس!
– تحفيز على النجاح:
وقد تكرر توصيف السليقة السابقة في عدد من آيات القرآن، ومنها آية أوردها الله في سياق التهوين على الرسول من إعراض الناس والتأكيد على أنه لم يرسله عليهم حفيظا، وأن واجبه نحوهم لا يخرج عن البلاغ، ثم قال عز وجل في ذات الآية: {وإنا إذا أذقنا الإنسان رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور} [الشورى: ٤٨]، وكأنه يقول له لا مسؤولية عليك في إعراضهم وإنما يتحملون هم مسؤولية أنفسهم، ولو تأملنا الجملة الاعتراضية {بما قدمت أيديهم}؛ لوجدنا أنها بقدر ما تؤكد أن المصائب من كسب الإنسان، فإنها تتضمن تحفيزا على تجنب الوقوع في المصائب والسيئات حتى لا يستدعي ذلك الوقوع انبعاث سليقة الغضب من الأقدار والاندفان تحت أثقال الكفر!