جواهر التدبر (٢٦٠)
التزكي بين الأقوال والأفعال
بقلم أ. د. فؤاد البنا
في سأئر العبادات تتضافر الأقوال والأفعال والمشاعر لتصنع عبادة واحدة، سواء كانت مما يخص حقوق الله أو حقوق الإنسان، لكن هذا الاطراد لا يستقيم مع عبودية التزكي، كما سيأتي.
وقبل ذلك نؤكد أن عملية التزكي تتضمن أمرين مرتبطين بالخلقة الأولى للإنسان، وهما:
– التطهر من أدران القبضة الطينية المأخوذة من تراب الأرض.
– الاستزادة من أزواد النفخة الروحية التي تمت في السماء.
والعجيب أن في هذه العبادة تضادا كبيرا بين ما يفعله الإنسان وما يقوله، فهو مأمور بأن يأخذ بكل أسباب التزكي، بل ورتب المولى الفلاح على هذا التزكي، فقال: {قد أفلح من تزكّى} [الأعلى: ١٤]، وقال: {قد أفلح من زكاها} [الشمس: ٩]؛ ذلك أن عملية التزكي مستمرة طيلة العمر ومتصلة بسائر العبادات ولا سيما الشعائرية والقلبية، وتشتمل على عمليتين حسابيتين وهما الطرح والجمع، أي طرح العناصر الترابية التي تجذب الإنسان نحو دركة الحيوانية، وجمع العناصر الروحية التي ترتقي بالإنسان نحو درجة الملائكية، وفي هذا السياق أخبر الله بأن من يتزكى فإنه سينفع نفسه، فقال عز من قائل: {ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير} [فاطر: ١٨]، ويفيد مفهوم المخالفة بأن من لم يتعب نفسه في التزكي فإنما سيضر نفسه فقط. وأخبر بعد ذلك بجزاء هذا التزكي القلبي والعقلي والعملي والذي تجتمع فيه أعداد كبيرة من العبادات؛ حيث أعلمنا عز وجل بأن من يأتي ربه يوم القيامة مؤمنا قد عمل الصالحات؛ فإنه يصير من أصحاب الدرجات العلى في جنات عدن خالدا مخلدا في نعيمها، وختم الآيتين بقوله: {وذلك جزاء من تزكّى} [طه: ٧٦].
وحينما يتعلق الأمر بادعاء التزكي أو إعلان المرء أنه صار من الصالحين المتقين؛ فإن القرآن يرفض هذا الأمر ويتصدى لأصحابه، كما في قول الله عز وجل: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [النجم: ٣٢]، وقد عجّب الله رسوله محمدا من أناس يزكون أنفسهم فقال: {ألم ترَ إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا} [النساء: ٤٩].
ولكن لماذا حرّم الإسلام أن يزكي المرء نفسه؟
إن الله الذي نهى الإنسان عن التزكي هو من خلقه، وهو يعلم ما يصلحه وما يفسده، ولأنه رحيم به ويريد أن يتبوأ أعلى الجنان؛ فقد شرع له من التعاليم في جانبي الأمر والنهي ما يكفل له التحرر من أثقال التراب، والترقي نحو السمو الملائكي بحيث يتأهل لارتياد جنات السماوات!
وهو يعلم تعالى أن تزكية أنبيائه ومن يقوم بمهمتهم، لا يمكن ان تنفع الإنسان ما لم يقتنع من داخله ويبادر إلى الاستزادة الدائمة من متطلبات الوصول إلى الكمال البشري، وهذا يجعله دائما في مكابدة مع النفس ومجاهدة مع الشيطان، وفي حالة انتباه لتسويلات النفس وحذر من وسوسات الشيطان، مهما تخفت وراء مشاعر طيبة أو انضوت تحت عناوين وشعارات براقة، لكنه حينما يعتقد أنه قد تزكى راضيا عن نفسه، فإنه سيتخلى عن انتباهه ونباهته ويكف عن حذره، وستنفتح ثغرات في جدار مناعته للنيل منه، وقد ينجح أعداؤه في تزيين سوء ما يشعر به ويعمله من أعمال دقيقة، ومع المدى من المرجح أن يسكنه العجب ويتسرب إليه الغرور، كما حدث لكثير من العبّاد والصالحين الذين زكوا أنفسهم في ذروة روحانية غافلة، ومع المدى تورمت ذواتهم وانتفخت أوداجهم، حتى أن من كان يقول بعد كل إنجاز لقد فعل الله، صار يقول: لقد فعلت، لتصيبه بعد أمد الروح القارونية، وهنا يأتي الخسف والهلاك المعنويان!