جواهر التدبر (٢٥٦)
الشغف النبوي بالهداية
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– أجر التبليغ هو اهتداء الناس:
ورد في القرآن الكريم أن الله تعالى قال لنبيه محمد عليه السلام: {قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا} [الفرقان: ٥٧]. وبتأمل الآية يتضح أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يريد مقابل تبليغه من أمته أجرا إلا من شاء منهم أن يتخذ إلى ربه سبيلا، وهذا الاستثناء يفيد أن الرسول اهتداء المدعوّ إلى طريق ربه، هو أفضل أجر يطمع بالحصول عليه؛ ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كما وصفه ربه (رحمة للعالمين)؛ فهو يفرح بنجاحه في استنقاذ أي شخص من النار ويسعد بإرشاده إلى سواء السبيل التي ستوصله إلى الجنة بإذن ربه!
وهذا الاستمتاع المحمدي الشديد بالهداية يضاف إلى الفروق القائمة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين سائر الأنبياء والمرسلين، فقد ثبت بنصوص القرآن أن الواحد منهم كان يقول لقومه، كما قال نوح: {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين} [الشعراء: ١٠٩]، وقد تكررت هذه العبارة الواردة في الآية بالحرف الواحد داخل سورة الشعراء على ألسنة هود وصالح وشعيب ولوط عليهم السلام، وهذا كان ديدن جميع الرسل، بينما أخبرهم محمد صلى الله عليه وسلم بأنه لا يريد منهم أجرا قط، وبالنسبة لمن اهتدى منهم فهذا أكبر أجر يحصل عليه مقابل ما بذل من جهد في تبليغهم رسالة ربهم، وهذا يبرز خلقه العظيم الذي مدحه الله به، ورحمته السابغة التي أخبرنا الله عنها!
– ركوب المستحيل في سبيل الهداية:
نتيجة شغف النبي الشديد بالهداية وامتلائه بالرحمة، فقد ظل يبذل كل مستطاع من أجل هداية كل من يعرفه من الناس، وهذه وظيفته بالطبع، لكنه تجاوز التكليف حينما حاول أن يعمل فوق المستطاع حتى أصابه الحزن على من لم يهتد، وكاد أن يهلك نفسه بسبب عدم نجاحه مع بعضهم، كما ورد في أكثر من آية، لكن الله ولكونه صاحب العلم المطلق، تدخّل بضع مرات ناهيا إياه عن تحميل نفسه فوق طاقته وعن أن يقتل نفسه حسرات على من لا يستحقون، من مثل قوله تعالى: {أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون} [يونس: ٤٣]، فكأنه يقول له: إن مهمتك هي هداية الإرشاد المشار إليها في قوله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} [الشورى: ٥٢]، بحيث تضع المرء على مفتتح الطريق مع توضيح كافة المعالم له بطريقة حكيمة، ونلاحظ أن الحديث هنا عن وظيفة قائمة ومستمرة كما يفيد الفعل المضارع (تهدي) مع التأكيد بحرف اللام، غير أن المسير الآمن في الطريق الطويل يحتاج إلى أن يفتح المرء عينيه حتى يرى أين يضع قدمه في كل مرة مع امتلاك إرادة السير، وهذا لا شأن للنبي به وإنما بالشخص المهتدي؛ لأن المرء لا يدخل الجنة إلا بإرادته الحرة ومشيئته التامة، وكما قال الصادق المصدوق: “كلكم يدخل الجنة إلا من أبى…”!
وبسبب الشغف المحمدي بالهداية ورحمته السابغة مرة أخرى، فقد استمر بإرهاق نفسه في محاولة هداية صناديد قريش، فعاتبه الله مرة أخرى عبر سؤال استنكاري يقول: {أفأنت تُسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين} [الزخرف: ٤٠]؟!
وبسبب هذه الطبيعة المحمدية نفسها بجانب رأفته بعمه أبي طالب الذي رباه صغيرا وحماه كبيرا، فقد حاول الرسول الرحيم اجتراح المستحيل في سبيل هداية عمه، لكن الله قال له: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: ٥٦]، وهداية الله ليست هداية إجبار وإنما هداية إعانة لمن انسلك في طريق الاستقامة بقدميه، والباب لا يُفتح إلا لمن طرقه بملء إرادته!
– الشغف الذي تسبب بالعتاب السماوي:
لو تفكرنا في المواضع التي نزل الوحي يخاطب فيها النبي صلى الله عليه وسلم على اجتهادات خاطئة، لوجدنا أن شغفه بوظيفته وشدة رحمته بأمته هما من دفعاه للوقوع في هذه الأخطاء الاجتهادية، وأهمها:
– العبوس في وجه الأعمى عبدالله بن أم مكتوم كما ورد في مطلع سورة عبس، فقد وقع الحادث نتيجة حرص الرسول على هداية بعض كبراء قريش حينما أصغوا آذانهم له، وكانوا لا يفعلون ذلك في العادة!
– أخذ الفدية من أسرى قريش في غزوة بدر؛ فقد أخذ الفدية رحمة بهم ورجاء أن يهتدوا ويصبحوا مؤمنين، مع مراعاة أقاربهم المسلمين أيضا.
– الإذن لبعض ضعفاء الإيمان بالبقاء في المدينة عند الخروج إلى غزوة تبوك؛ فقد كان من باب إحسان الظن بهم وتألّف قلوبهم وعدم مجابهتهم برفض أعذارهم.
– تحريم العسل أو إحدى زوجاته على نفسه صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان من أجل إرضاء بعض زوجاته، كما هو معروف في أسباب نزول مطلع سورة التحريم.