جواهر التدبر (٢٥١)
سجونُ الفراعنة
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– سجون الفراعنة:
إن السجون عند الفراعنة ليست وسيلة تأديب لمن اقترف الجرائم وخالف القوانين المتبعة، لكنه أداة تنكيل بالأحرار ومن يرفضون الانضمام لقطيع الفرعون.
وإن من يأنفون العيش في زرائب العبودية، يغلقون عليهم الأبواب في سجون لا تصل إليها الشمس، وربما وضعت القيود على أرجلهم، إنهم يحرمونهم من أبسط حقوق الآدمية طيلة آماد من الزمان، كما قال فرعون لموسى: { لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين}، وكلمة المسجونين تفيد الحبس الدائم أو الطويل الأمد، وتستخدم كلمة المعتقلين لأصحاب الفترات القصيرة أو الذين لم تتم محاكمتهم بعد، وتفيد كلمة (من) التي سبقت المسجونين بوجود سجناء كثيرين، وهذا مشهور في تاريخ مصر في أغلب العصور!
– سجون مصر:
لا أظن أن الأمر جاء مصادفة عندما ذكر القرآن السجن ومشتقاته عشر مرات وكلها داخل مصر،
فما تزال مصر إلى يومنا هذا هي البلد الذي تضم سجونه عدداً أكبر من الأحرار على مستوى العالم مقارنة بعدد السكان، وبلا شك فإن السجون من طبائع الطغاة في كل مجتمعات العالم، وهل هناك أطغى من فراعنة مصر الذين وصل الطغيان ببعضهم إلى حد إعلان التأله على الناس؟
– سمة عامة:
لأن السجون كانت كثيفة في مصر، ولأن من عادة الكبراء أن يمارسوا تقييد حريات المستضعفين، فقد وصل الأمر بامرأة عزيز مصر إلى أن استخدمت الهجوم كوسيلة للدفاع، وذلك عندما استبَقت مع يوسف الباب وألفيا سيدها لدى الباب، فقالت بسرعة: {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم}.
ونلاحظ هنا أنها ما تزال تحاول تطويع يوسف لما همت به من فاحشة، فقد قالت “إلا أن يسجن”؛ حيث حددت العقوبة، وهي عقوبة يسيرة في ذلك المجتمع الجبار الذي كان يبطش فيه الأقوياء بالضعفاء لأتفه سبب، فكيف تحدد عقوبة السجن لمدة يسيرة لمن أراد اغتصابها حسب زعمها؟!
إنها فقط تريد صرف العين عنها ثم تعاود التحرش بيوسف، وبالفعل فقد هددته أمام نسوة المدينة بأنه إن لم يستجب لمطلبها فإنها ستسجنه وتمارس عليه سياسة الإذلال، وذلك بقولها: {ليسجنن وليكوناً من الصاغرين}، ولو أرادت السجن الطويل ليوسف لقالت له كما قال فرعون لموسى: {لأجعلنك من المسجونين} الذين لا يعرفون ضياء الشمس ولا يتذقون طعم الحرية طيلة أعمارهم!
– حفظ ماء الوجه:
قد يستخدم السجن عند الفراعنة كأداة لحفظ ماء وجوههم في بعض الأحيان، إن كان في وجوههم مياه، كما فعل أهل المرأة التي راودت يوسف عن نفسه، فقد تبينت لهم براءة يوسف ببراهين عديدة بما فيها برهان خارق للعادة، لكنهم رأوا رميه في السجن حفظاً لماء وجوههم وحتى تسكت الألسنة التي كانت بدأت بسلق امرأة العزيز، قال تعالى: {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين}، أي من بعد ما رأوا الأدلة القاطعة على براءة يوسف ودناءة امرأة العزيز، وسجن بالفعل بضع سنين لإخراس الألسنة مع وجود اليقين ببراءته من التهمة المنسوبة إليه!
وهذا ما يفعله الطغاة في كل زمان من دون تورع أو تردد، فالضعفاء يدفعون أثمان خطايا الجبارين!