جواهر التدبر (٢٥٠)
تمازجُ التبشير والإنذار
بقلم أ. د. فؤاد البنا
لأن الله تعالى خلق الإنسان من القبضة الطينية والنفخة الروحية، ولأنه يعلم طبائع خلقه وهو اللطيف الخبير؛ فإنه يستخدم التبشير والإنذار في التأثير على قلوبهم حتى تندفع لمعرفة مراد الله بقوة وتطبقه في حياتها بصرامة، بحيث لا يجد الرحمن عبده عند نواهيه ولا يفقده عند أوامره، وبحيث يقرأ آيات الترغيب فينبعث في وجدانه الرجاء ويقرأ آيات الترهيب فيشتعل في صدره الخوف، وقد تكرر هذا الأمر في عشرات الآيات من القرآن بمختلف الصيغ والأساليب، ومنها ١٦ موضعا اقترن فيها لفظا التبشير والإنذار مع بعضهما، وبهذا التمازج فإن قارب الرجاء لا يمكن أن يوصل العبد إلى شاطئ الأمن من مكر الله، وقارب الخوف لا يمكن أن يوصله إلى القنوط من رحمة الله!
وهناك مقامات يتغلب فيها الإنذار أو التبشير، لاقتضاء السياق ذلك، ومع هذا فإن الأمر لا يخلو من إشارة إلى الشق الآخر من عملة تحريك الوجدان!
وعلى سبيل المثال هناك موضع اشتد فيه وعيد الله، حتى أنه استخدم أسلوبا فريدا في الترهيب، وهو تحذيرهم من نفسه عز وجل، ورغم ذلك فقد مزج الله وعيده الشديد بإشارة لطيفة لرأفته بعباده، فقال تعالى: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد} [آل عمران: ٣٠]، حيث حذر عباده من أن يوما سيأتي لا محالة ستُحضر فيه كافة أعمال العبد وتوضع أمامه بأبعادها القبيحة وتفاصيلها المخزية، منذ أن وصل إلى سن التكليف حتى حلول الأجل، كما قال عز من قائل: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخر}.
ولأن المقام في الأصل مقام وعيد فإن التعبير القرآني يُعرض عن ذكر من اجترح المآثر ولاقى حسناته، تاركا الخيال يفعل فعله في هذا الموقف الفرائحي الضخم، ويذهب إلى من جمع القبائح وأعمال السوء والذي يتمنى أن تقاس المسافة بينه وبين أعماله السيئة بالمقاييس الزمانية لا المكانية (أمداً بعيدا)، كناية عن الرغبة بالبعد الشديد عن خطاياه التي تجسدت في صورة وحش يريد افتراسه، كما نفعل في زماننا بقياس المسافات الكونية البعيدة عبر ما تسمى بالسنين الضوئية، وهذا الأسلوب أشد وطأة من قوله تعالى على لسان العاصي لربه، وهو يتحدث عن قرين السوء: {يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين فبئس القرين} [الزخرف: ٣٨]، وبالطبع فإن الأماني لا تغني عن أصحابها شيئا، ما لم يكن المرء قد استغل دنياه لعمارة آخرته!
وقد عزز الله هذا التخويف بوعيد شديد اللهجة، قال فيه تعالى: {ويحذركم الله نفسه} أي: انتبهوا أن تجدوا أنفسكم في مواجهة مباشرة مع الله عز وجل واحذروا العقاب الذي يليق بعظمته وجبروته، لكنه كعادته تعالى دائما في المزج بين الوعد والوعيد يُرسل جرعة رجاء وومضة أمل، وذلك بختم الآية بذكر رأفته ورحمته، حيث قال عز من قائل: {والله رءوف بالعباد}، كأنه يقول إن الأصل فيه عز وجل هو رأفته بعباده فلا تظلموا أنفسكم باستثارة وعيده واستجلاب عقابه الأليم!
ولا يجدر بنا أن نختم الآية دون الإشارة إلى أن هناك من اعتبر أن هذه الجملة {والله رؤوف بالعباد} تتمة لجملة الوعيد، بمعنى أن تحذير الله لعباده من نفسه إنما هو من رأفته بهم، كما ذهب إلى ذلك سيد التابعين الحسن البصري، ومهما يكن الأمر فالنتيجة واحدة، وهي المزج الحكيم بين التبشير والإنذار، بحيث يظل التوازن قائما بين الرجاء والخوف.