جواهر التدبر (٢٤٩)
مراعاة التكوين المزدوج للإنسان ورعايته
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– خدمة القبضة والنفخة!
لأن القرآن الكريم كتاب أحكمت آياته وتنزّل من لدن حكم خبير ومن قادر اجتمعت في يديه مقاليد الخلق والأمر؛ فإنه دقيق في كل تعاليمه، ولا ينسى في أي موقف يعالج فيه حاجات الإنسان مهما كان بسيطا، أن الكائن الآدمي مخلوق من قبضة الطين ونفخة الروح، مثل قوله تعالى: ﴿وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا﴾ [النساء: ]، حيث يوجه المولى عز وجل أصحاب الميراث الذين يقومون بقسمة ما ترك لهم المورث من مال، أن لا ينسوا أن هذا مال الله في الأصل، ومن ثم فإن عليهم أن يمنحوا شيئا منه لمن حضروا القسمة من الأقارب الذين ليس لهم نصيب في الميراث ومن اليتامى والمساكين الذين يعيشون بالقرب منهم، وبالطبع فإن المال المعطى لهم يملك القدرة على توفير حاجات البعد الطيني في الإنسان، ولذلك فإن النفخة الروحية التي منحت الإنسان الكرامة والأفضلية على سائر الموجودات تحتاج إلى شيء من الدعم في نفس الوقت، ولذلك فقد ختم الآية بقوله تعالى: {وقولوا لهم قولا معروفا}، فقول المعروف يحافظ على القوام المعنوي للإنسان!
ونهى الإسلام كثيرا عن ممارسة المعطي المن والأذى مع المعطى له، لأن العطاء المادي يعزز البعد المادي، والمنّ أو الأذى يهدر البعد الروحي أو المعنوي وهو أثمن وأكثر نفاسة من الجثمان المادي.
ولما كان درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة بلغة علماء الأصول، فقد فضّل القرآن منع المال مع قول المعروف على إعطاء المال المقرون بالمن والأذى، فقال تعالى: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم} [البقرة: ٢٦٣]، وأتمنى من قرائي الأعزاء أن يتأملوا العلاقة بين معنى الآية وبين ختمها باسمي الغني والحليم.
– خطورة التفاصيل:
لا ينبغي أن ننسى أبدا أن الإنسان كائن ذو بعدين ترابي وروحي، وبسبب بعده الترابي فإن إمكانات الخطأ والقصور ثاوية في تكوينه، ويمكن أن تظهر الأخطاء في اعتقاده وقوله وفعله. وبالنسبة للقول فإن أخطاءه تنبثق بقوة حينما يخوض في تفاصيل أي موضوع دون امتلاك العلم ودون أن يكون قد أحكم ما يريد قوله من البداية.
ومن المعلوم أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ والسبب هو أن قائله هو الله الذي أحكمه أولا ثم فصله، كما قال تعالى: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت} [هود: ٢]، وقد أشار في آية أخرى إلى دور العلم في تفصيل الآيات فقال: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم..} [الأعراف: ٥٢]، وكأن باطن الآية يقول إن الخوض في التفاصيل يحتاج إلى علم أكبر وأعمق، وهذا يحثنا على التعمق في كل قضية ندرسها أو ندلو برأي فيها، أو الجنوح نحو الصمت وعدم الخوض في ما لا نتقن، ومن المعالم الأساسية في تأديب الله تعالى لحبيبه محمد عليه السلام، قوله عز وجل {ولا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك عنه مسؤولا} [الإسراء: ٣٦]، وهي دعوة لا نظير لها في كافة الكتب المقدسة للانضباط المعرفي والتحلي بالروح العلمية!