مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٤٧) .. بين التفرق في الدين والدخول إليه من أبواب متفرقة

جواهر التدبر (٢٤٧)

بين التفرق في الدين والدخول إليه من أبواب متفرقة

 

بقلم أ.د.فؤاد البنا

– تعدد التفرق المنهي عنه:
ورد في القرآن الكريم قول الله تعالى لنبيه محمد عليه السلام: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء…} [الأنعام: ١٥٩]، ذلك أنهم قد بدّلوا وغيّروا الدين الإلهي، ولم تعد تجمعهم آصرة الدين القيم مع الرسول، ذلك أن الإسلام حينما يتم تجزئته يصير شيئا آخر غير الإسلام!
وبالطبع فإن الدين قد جاء بالكليات والأصول والمقاصد التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ذلك أنها تمثل القواسم المشتركة بين جميع الناس بمختلف نفسياتهم ومداركهم ومستوياتهم، وبشتى أعراقهم وعوائدهم ومناطقهم، ولم يأت الدين بالجزئيات والفروع أو بالأساليب والوسائل، ومن هنا فإن عبارة (دينهم) الواردة في الآية تعني ثوابتهم التي هي الكليات والمقاصد والأصول، بمعنى أن التفرق المنهي عنه والمتسبب في اجتلاب العذاب العظيم لأصحابه في داري المعاش والمعاد هو التفرق في الثوابت المعلومة من الدين بالضرورة، وينطبق على هذا المجال قوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم}، والبينات هي القواطع الظاهرة والقطعيات اليقينية، ويدخل ما عدا الثوابت في التعدد السائغ والذي لا يجوز فحسب بل قد يكون مطلوبا لكونه وسيلة لخلق التدافع الطبيعي بين الناس وإذكاء التنافس بين المؤمنين على التجويد والتحسين وصولاً إلى التطوير والابتكار، وينطبق على هذا المجال قوله تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}، ويكون المجتهد المصيب مستحقا لأجرين والمخطئ لأجر واحد، وقد يتعدد الصواب في بعض المسائل، كما في الوسائل ما دامت جميعها تحقق المقصد المنشود.

– الدخول من أبواب متفرقة:
من المعلوم أنه لا يوجد كتاب هداية مثل القرآن الكريم، لا في شمول هداياته للفرد والأسرة والمجتمع والأمة والعالم كله، ولا في جمعه بين ثنائيات: الروح والمادة، الدنيا والآخرة المثالية والواقعية، ولا في تنوع إعجازه بين البياني والعلمي والتشريعي والغيبي، ولا في تفرد أساليبه البلاغية الساحرة وتفنن صياغاته البيانية المحكمة، ولا في طرق تأثيره الخفية والجلية على العقول والقلوب والنفوس، ولقد قال الله تعالى لحبيبه محمد: {انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون} [الأنعام: ٦٥]، أي أن تصريف الآيات وتنويع الأساليب مدعاة للفهم العميق، ولعل الله أراد بكلمة (انظر)، تجاوز الإخبار للرسول إلى لفت نظره لمنهج التنوع في الأساليب والوسائل من أجل الولوج الناجح إلى العقول والقلوب حتى تفهم المراد ويسكنها التأثر، بحيث تمتلئ الجوانح بالقناعة والإيمان فتتحرك الجوارح للعمل والتطبيق!

– الانصراف عن الثوابت:
لقد سطّر الله كليات الإسلام وأصوله ومقاصده العامة في كتاب أحكمت آياته من لدن حكيم خبير، وصاغ تعاليمه بطريقة ميسرة للذكر والادكار أي للتلاوة والفهم والتأثر، طالبا من المسلمين القيام بدورهم من خلال إعمال مدارك العقل وأحاسيس القلب، حيث قال عزّ من قائل: {ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}؟، وقد تكررت هذه العبارة بذات الحروف في أربعة مواضع من سورة القمر.
ولهذا فقد استنكر الله على من ينصرف عن الثوابت القطعية المعلومة من الدين بالضرورة، فقال تعالى:  {فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تُصرفون} [يونس: ٣٢]، أي فمن أين تُصرفون عن هذه الثوابت وكيف؟ وهي مصوغة بصورة واضحة لا تقبل التأويل، ومقنعة لا تقبل الشك، وفي ذات الوقت تتضمن ما يلبي حاجات الجسم ويتفق مع طبيعة الفطرة، وما يلبي أشواق الروح وأتواق العقل، وما يحقق السعادة الدنيوية والفوز الأخروي بالنعيم الأبدي!
وأمّ الثوابت المذكورة في الآية هي أن الله هو الرب الحق للناس، لأنه وحده من يخلقهم ويرزقهم ويحييهم ويميتهم ثم يبعثهم ويجازيهم على ما كسبت أيديهم، وما عداه من اتخاذ الأرباب والمترببين إنما هو باطل محض وضلال مبين، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى