جواهر التدبر (٢٣٩)
فاعلية القرآن الكريم
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– جاذبية كلام الله:
من الآيات التي تُبرز الفاعلية الذاتية للقرآن الكريم قوله تعالى لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} [فصلت: ٢٦]، فإن كل من بقي فيه شيء من الفطرة السليمة والعقل المنصف يقع حتما في نطاق جاذبية القرآن الكريم؛ نتيجة بلاغته اللغوية المدهشة وتأثيره النفسي الساحر، وعقلانيته القائمة على الأدلة والبراهين، بجانب احتوائه على بوصلة الهداية الربانية الكاملة، واشتماله على وصفات السعادة الدنيوية والفوز الأخروي بالنسبة للفرد، وعلى معادلات التمكين السياسي والشهود الحضاري بالنسبة للأمة.
– الخوف من تأثير القرآن الكريم:
من عرف القرآن من الكفار عن قرب وأدركوا عبقريته البنيوية وعظمته المعنوية، إما أنهم آمنوا بأنه كلام الله المتنزل من السماء أو عرفوا قدرته الخارقة على الانسياب في عقول الناس وقلوبهم والتأثير عليها بصورة آسرة، وإذا كان الأولون قد بادروا إلى إظهار مزاياه وتعريف الناس بمكارمه وفضائله وقيمه العظيمة؛ فإن الآخرين قد سارعوا إلى التحذير من قراءته وأسهموا في صناعة حوائط صد تمنع وصوله إلى التابعين لهم، وهؤلاء موجودون في كل زمان منذ عصر تنزل القرآن، وقد سجل الله قول فريق من الكفار لبعضهم حيال هذا القرآن، فقال تعالى على ألسنتهم: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} [فصلت: ٢٦]، ونلاحظ أن هؤلاء حتى وهم في مقام التحريض والتجييش ضد القرآن فإن نفوسهم مسكونة بالهزيمة أمام قوته العجيبة، حيث يظهر هذا الأمر لمن تأمل قولهم (لعلكم تغلبون)، فبصيص الأمل في الغلبة هو الذي يمنحهم الجرأة للوقوف أمام القوة الكاسحة للقران، وهي القوة التي أمر الله رسوله محمدا بأن يستثمرها في مجاهدة الكافرين، فقال تعالى: {وجاهدهم به جهادا كبيرا}، وهو الجهاد الناعم الذي يتوسل بفاعلية القرآن في إقناع العقول واكتساب القلوب؛ ذلك أن هذه الآية موجودة في سورة الفرقان وهي سورة مكية، ولم يشرع الجهاد إلا بعد قيام الدولة في المدينة المنورة!
وبسبب شدة جاذبية القرآن وعدم قدرة كبراء الكفار على تفسير قوته أو الطعن في كماله وجماله، فقد أطلقوا عليه بأنه سحر، وهو نوع من الهروب من عالم الشهادة إلى عالم الغيب!
وللعلم فإن الاستشراق بدأ كعمل دفاعي لا هجومي من قبل بعض رجال الدين المسيحي في الأندلس، بعد ما رأوا انجذاب شبابهم نحو القرآن وتأثرهم بنمط الحياة الإسلامية وبروز القيم الحضارية في مدائن المسلمين، فتداعوا لتأليف كتب تتولى تشويه صورة الإسلام لتدريسها لأبنائهم حتى تنشأ في عقولهم وقلوبهم صورة شوهاء تحميهم من جاذبية القرآن!
– إعجاز القرآن:
القرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الذي يجمع بين الإعجاز والهداية في آن واحد، فهو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم بل معجزة هذا الدين في كل عصر ومصر، ولو تأملنا أسماء القرآن وصفاته لوجدنا أضلاع قوته تتبدى من خلالها!
وبسبب القوة الذاتية للقرآن ظل الإسلام يجتذب الآلاف من ذوي العلم والمكانة الرفيعة في بلدان الغرب لاعتناقه حتى في أسوأ حالات تخلف المسلمين، بينما كان الذين يخرجون منه على قلتهم، من الذين يجمعون بين الجهل والفقر غالبا، ومن ثم فقد نظروا للإسلام من زاوية أخلاق المسلمين وسلوكياتهم البعيدة عن هذا الدين!
وللعلم فإن القوة الذاتية لهذا الدين والتي تنبع في الأساس من القرآن هي التي أدت إلى اختراق واحد من قوانين علم الاجتماع الإنساني، وهو القانون الذي يقول بأن الضعيف مولع بتقليد القوي، والمغلوب عاشق لتقليد ثقافة الغالب؛ فقد كان المسلمون في حالات كثيرة ينهزمون نتيجة بعدهم عن دينهم، ومع ذلك تأتي أعداد من الذين ينتمون لثقافة الغالب ليعتنقوا الإسلام بعد أن يتعرفوا عليه عن قرب، كما حدث ويحدث لمئات الآلاف من الغربيين الذين ظلوا يعتنقون الإسلام في فترات انهزام المسلمين وضعفهم، ووصل الأمر إلى أن شعوبا كاملة من المغول والتتار اعتنقت الإسلام وهم في ذروة انتصارهم على المسلمين، وبالإسلام قام هؤلاء المغول بفتح بلاد الهند وأقاموا إمبراطورية عظيمة استمرت قرونا من الزمان حتى أسقطها الاستعمار البريطاني سنة ١٨٥٨م!