جواهر التدبر (٢٣٨)
مقومات الشهود الحضاري
بقلم أ. د. فؤاد البنا
بحكم أن أمة الإسلام خاتمة الأمم وصاحبة الدين العالمي الخالد حتى قيام الساعة، والذي اجتمعت فيه أبعاد الرسالات السابقة كلها؛ فقد منحها الله منزلة الشهود الحضاري على الأمم، كما قال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة: ١٤٣]، واسم الإشارة (كذلك) يعود على معهود في الأذهان، وهو أن أمة الإسلام تقع في القلب الجغرافي والتاريخي للعالم، وخاصة أن هذا الذكر جاء وسط الآيات التي تتحدث عن تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة.
وكلمة شهداء الواردة في الآية جمع شاهد وشهيد، وحينما نتأمل هذه الكلمة في القرآن فسنجد أنها تحمل معاني العلم والإحاطة والشمول والحضور والمسؤولية، وهذه هي متطلبات الشهود الحضاري ووظائفه لمن يتدبر القرآن الكريم ويعرف مراده من الأمة، وهذه بعض الإشارات السريعة التي تؤكد هذا الأمر:
– المسؤولية: فإن أمة الإسلام مسؤولة عن بقية الأمم، حيث ينبغي أن تبرز لها الصورة الناصعة للإسلام بدعوتها، وبسلوكها قبل ذلك؛ إذ أن الأحوال أبلغ من الأقوال، ونأخذ هذا المعنى من شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته وكذا كل الأنبياء على أممهم، قال تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [النساء: ٤١]، وقال عز من قائل لرسوله محمد عليه السلام: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} [الفتح: ٨]، ومن مقتضيات الشهود والشهادة المسؤولية والدخول من أبواب متفرقة من أجل التبليغ والتذرع بكافة الوسائل والأساليب التي تحقق الهدف المنشود بأعلى درجات الكفاءة.
– الرقابة: قال تعالى {أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد} [المجادلة: ٦]، أي والله على كل شيء رقيب، وهذا ما ينبغي أن تقوم به أمة الإسلام بحيث تمتلك خزانا معرفيا ضخما عن مختلف شعوب العالم حتى تتعامل مع كل بلد وأمة بطريقة علمية تحقق الهدف المنشود بأفضل كفاءة ممكنة.
– الحضور والمشاركة: وجاءت الشهادة بهذا المعنى في قوله تعالى على لسان ملكة سبأ اليمنية: {يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون} [النهار ٣٢]، أي حتى تحضرون وتشاركوني الرأي وصناعة القرار، وقال أيضا: {ليشهدوا منافع لهم} [الحج: ٢٨]، أي ليحضروا المنافع التي ستعود عليهم بالخير في الحال والمآل، وقال: {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض } [الكهف: ٥١]، أي ما شاركتهم خلق السماوات والأرض ولا حضروا هذا الأمر، ومن ثم فإن أمة الإسلام ينبغي أن تكون حاضرة في صناعة الحضارة ومشاركة بفاعلية في عملية تبادل المنافع العالمية، وتكون يدها عليا بالعطاء؛ لأن اليد العليا خير من اليد السفلى.
– إقامة الحجة: ومن هذا المعنى للشهادة قال تعالى: {إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم} [المزمل: ١٥]، أي يقيم حجة الله عليكم بالآيات والبينات، وهذا ما ينبغي أن تفعله أمة الإسلام مع الأمم الأخرى، ما دام الله قد اصطفاها للشهود الحضاري، وهذا لا يعني أبدا الإكراه فحتى الرسول صلى الله عليه وسلم حينما دفعته رحمته الشديدة لتكثيف أساليب الدعوة بصورة فوق الطبيعية؛ قال له تعالى بصورة استنكارية: {أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}؟!
– العلم: وتأتي الشهادة بمعنى العلم، كما في قوله تعالى: {آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون} [آل عمران: ٥٢]، أي واعلم بأنا مسلمون، وقوله عز وجل: {فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: ٦٤]، أي اعلموا بأننا مسلمون، ومثلها قوله تعالى: {يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون} [آل عمران: ٧٠]، أي وأنتم تعلمون، ومن هنا فإن أمة الشهود الحضاري ينبغي أن تكون حاوية لكل التخصصات العلمية التي تمكنها من الإبداع في عمارة الأرض والتفنن في صناعة الحياة وبأعلى درجات الفاعلية التي تجعل لها اليد الطولى؛ بحيث تساعد المحتاجين وتقيم موازين العدل بين الناس وتمنع الجور والاعتداء على المستضعفين، وهذا الأمر من مقاصد الجهاد في الإسلام، كما ورد في قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}، والفتنة هنا تعني الإكراه لأي شعب من قبل أي شعب أو أمة على اعتناق ما لا يرضاه من الثقافات والأفكار والقناعات.