جواهر التدبر (٢٣٢)
العروج إلى الحكمة
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– النظر إلى المتغيرات من منظار الثوابت:
قال تعالى لنبيه محمد عليه السلام: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله..}[النساء: ١٠٥]، وأرجو أن تتأملوا مليا في عبارة (بما أراك الله) قبل أن تسترسلوا في قراءة المقال.
إن الحكم بين الناس يتصل غالبا بمسائل من ملتبسات المسائل ومتشابهات القضايا ومن مستجدات الحياة، وتدخل ضمن مجال المتغيرات، وليست من الثوابت المعلومة من الدين بالضرورة، والحاكم هنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن يقوم مقامه إلى قيام الساعة، ومرجعية الحكم هي القرآن المجموع بين دفتي كتاب مبين، وينبغي أن يستنبط الحاكم أحكام القضايا المستجدة في ضوء علل وأسرار الأحكام الثابتة في القرآن (بما أراك الله)، بحيث ينظر إلى الفروع من خلال كواشف الأصول، ويعيد الجزئيات إلى الكليات، ويجتهد في ابتكار الوسائل والأساليب وفي تكييفها على ضوء المقاصد والغايات.
وبالطبع فإن هذا الأمر يظل اجتهادا بشريا يمتلك إمكانات الصواب ويحمل احتمالات الخطأ، غير أن الخطأ نادر أو قليل جدا نتيجة هذا الانضباط المقاصدي الصارم.
وأهم مقاصد الشريعة الإسلامية هي العدل، ولذلك خصه الله تعالى بالذكر في خطاب آخر للرسول صلى الله عليه وسلم يخص الحكم، حيث قال تعالى: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط..}[المائدة: ٤٢]، ونقل القرآن عن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الله له بالعدل في قوله تعالى: {وأمرت لأعدل بينكم}، واستخدم فعل الأمر وليس صيغة الأمر للتأكيد على أهمية هذه القضية وخطورتها، وقد استنبط علماء الأصول من هاتين الآيتين وأمثالهما أن العدل هو المقصد الأسمى للشريعة الإسلامية.
– امتلاك مقاليد الحكمة:
ما يزال المجتهد أو الحاكم أو القاضي يتدرج في تنزيل النصوص على الوقائع، والثوابت على المتغيرات حتى يمتلك خبرة ثرية حول طرائق التنزيل مضيفا إياها إلى قواعد الفقه، وبامتلاك الفقه والخبرة يكون العالِم قد وصل إلى ذروة الحكمة التي قال الله عنها: {ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} [البقرة: ٢٦٩].
وربما كان هذا هو السر وراء ربط الحكمة بالكتاب في أحد عشر موضعا من آيات القرآن الكريم. ومن هذه الآيات قوله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} [الجمعة: ٢]، وتعليم الكتاب والحكمة يشير إلى تعليمه كيفية تدبر القرآن وفقه الواقع.
– تنزيل الثابت على المتغير:
لما كان التعريف الجامع للحكمة هو أنها تعني وضع الشيء في محله، فإن الحكمة الواردة في قوله تعالى: {ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} [البقرة: ٢٦٩]، هي القدرة على تنزيل نصوص الوحي على وقائع الحياة بصورة صحيحة، ذلك أنه لا يستطيع فعل ذلك إلا من جمع بين فهم الوحي والوعي بالواقع، وهذا هو الفقيه الحقيقي، كما قال ابن القيم: “لا يكون الفقيه فقيها حتى يجمع بين فقه الواجب وبين فقه الواقع”.
وبهذا يتضح لنا من تدبر الآيات السابقة، أنه لا يمكن اعتلاء ذروة الحكمة من دون الصعود عبر سُلّم المقاصد وإتقان خارطة الثوابت والمتغيرات.