مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٣١) .. الثمار العملية للعلم

جواهر التدبر (٢٣١)

الثمار العملية للعلم

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا 

– العلم العملي:
ليس العلم في الرؤية الإسلامية مجرد معرفة نظرية يزدان بها العقل، وإنما هو منهج للتفكير المنطقي في الحياة وللتعامل العقلاني مع كل شيء، وهو دافع لصاحبه للانسلاك في طريق الحق ورافع له نحو آفاق الأخلاق الكريمة والتعامل الحسن، ونفهم من هذا أن السلوكيات الشاذة تنتصب كبرهان على جهل صاحبها!
وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام: {قال السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصبُ إليهن وأكن من الجاهلين} [يوسف: ٣٣]، فقد اعتبر أنه سيصبح من الجاهلين إن استجاب لدعوات نسوة المدينة اللاتي يراودنه فيها عن نفسه، ويطالبنه بالانغماس في المواقعة الجنسية خارج إطار الزواج، وكأن مرتكب الموبقات ينسلخ من علمه تماما!
ولقد عرّف كثير من علماء السلف العلم بما يتفق مع هذه الرؤية الثاقبة، حتى أن سفيان بن عيينة قال: “إنما العلم الخشية”، وبالطبع فإن الخشية تتضح من خلال رقي الأخلاق واستقامة السلوك. وقال الحسن البصري في هذا الشأن: “إنما الفقيه: الزاهدُ في الدنيا، الراغبُ في الآخرة، البصيرُ بدينه، المداومُ على عبادة ربه، الورعُ، الكافُّ عن أعراض المسلمين، العفيفُ عن أموالهم، الناصحُ لهم “.

– علم الرجاء:
إنما تتضح حقيقة العلم في المحطات العملية، ومنها أن صاحب العلم لا يعرف اليأس ولا يتسلل إلى قلبه القنوط مهما ساءت الظروف واسودّت الأيام، فهو يعلم علم اليقين أن الله على كل شيء قدير، وأنه تعالى كل يوم في شأن، وأن أمره كائن بين الكاف والنون، ويدرك أن اشتداد العسر مؤذن بولادة اليسر، وأن الأنوار تخرج من أرحام الظلمات، ولذلك فإنه لا يزال يرفع راية الأمل ويستظل تحت مظلة الرجاء.
والنموذج القرآني في هذا السياق هو نبي الله يعقوب، فرغم أسفه البالغ على فقدان فلذة كبده يوسف حتى ابيضت عيناه من الحزن، إلا أنه لم يفقد الأمل، وعندما قال له قومه: {تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرَضا أو تكون من الهالكين} [يوسف: ٨٥]، رد عليهم بلغة العالم بأقدار خالقه وبإيمان الواثق بحكمة ربه: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون} [يوسف: ٨٦]، فما هو العلم الذي كان يعلمه ولا يعلمونه؟
يبدو لي أنه العلم بقدرة الله، واليقين بانسكاب رحمته مهما أجدبت الأحوال وقست الظروف، ومعرفة أن الحياة سلسلة من الابتلاءات التي تحتم على الإنسان التقلب بين السراء والضراء، وأن الفرج يعقب الشدة كما يعقب النهارُ الليل!
وعندما أخبرهم في ما بعد أنه يشم ريح يوسف قالوا له: {تالله إنك لفي ضلالك القديم} [يوسف:٩٥]، وبالفعل جاء البشير من قبل يوسف، فرد عليهم بروح العالم بالله والواثق بانبلاج صباح فرجه: {ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} [يوسف: ٩٦]، ونلاحظ كيف أن علمه مرتبط كله بعلم الله وقدرته ورأفته، ولم يذكر نفسه بشيء؛ ذلك أن الغيب لا يعلمه إلا الله!

– جهالة العُصاة:
إن الجهالة بمقام الله وعدم معرفة جلاله وعظمته تورث المرء فقدان الحساسية أمام المعاصي وقد يصاب باللامبالاة في اقتراف الآثام ويسقط في قعر الخطايا، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة}، فقد كان الصحابة يرون “أن كل من عصى الله فهو جاهل”، وفي المقابل فقد اعتبر الله العلماء أشد الناس خشية له، قال عز وجل: {إنما يخشى الله من عباده العلماء…}، ذلك أنهم يعلمون عظمته ويدركون جبروته وانتقامه ممن عصاه، وقد استخدم الله حرف (إنما) الذي يفيد الحصر والقصر، لكي نعلم أن من لا يعرف الله فإنه لا يخشاه، وهذا دافع قوي جدا لكي يكتسب المسلم العلم الذي يزرع الخشية من الله في جوانحه!
ويروى في هذا السياق أن عبدالله بن مسعود قال: “كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً”!
وهذا هو العلم العملي الذي يصنع أرقاما صحيحة ويبني ذواتا فاعلة، يمكنها أن تعمر الأرض وتصنع الحياة في سعيها لأن تستأنف أمتها العروج الحضاري وصولا إلى ذروة {كنتم خير أمة أخرجت للناس}.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى