جواهر التدبر (٢٢٩)
تقاسيم الوجوه
بقلم أ.د.فؤاد البنا
– تسويد الوجوه:
لقد سوَّد إخوة يوسف وجوههم بلطخات سوداء بما جنَت أيديهم، في الوقت الذي أرادوا فيه أن يخلو لهم وجه أبيهم، وأصابوا وجهه بالحزن حتى أصابه العمى، بعد أن حملوا إليه قميص يوسف زاعميين أن الذئب قد أكله، وكان يتفرس في وجوههم فيرى الكذب صارخا، وخاصة أن القميص السليم قد أكد تآمرهم الخبيث على أخيهم، ويأبى الله إلا أن يجعل قميص يوسف سبباً لرفع قسمات الحزن عن وجه يعقوب بل ولإعادة البصر إليه، فقد قال يوسف: {اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتِ بصيراً} [يوسف: ٩٣]، وبالفعل فقد حدث ذلك، كما قال تعالى: {فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيراً} [يوسف: ٩٦]، وكم يتصف التعبير القرآني بالدقة، فقد قال (ارتدّ) ذلك أن بصر يعقوب كان سليما تماما لولا الحزن الشديد الذي جلبه له أبناؤه العاقون!
– وجاهة الأنبياء:
إن من يقيمون وجوههم عند كل مسجد، ويولون وجوههم شطر أوامر الله، ويُسلمون وجوههم لله في شؤون حياتهم كلها؛ يجعلهم الله من الوجهاء في الدنيا والآخره، كما فعل بالمسيح عليه السلام، فقد قال تعالى عنه: {اسمه المسيح ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة} [آل عمران: ٤٥].
ومهما حاولت غيوم الاتهامات أن تحجب هذه الوجاهة فإنها لا تستطيع، فقد اتهم بنو إسرائيل موسى بكل نقيصة {فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً} [الأحزاب: ٩٦]، وبلغت وجاهته أن كلّمه الله تعالى من غير وسيط في خطاب تكليفه كنبي، وصيّره أحد الخمسة أولي العزم من الرسل الذين يتبوأون أعلى هرم النبوة، وبين هذه وتلك أجرى الله على يديه تسع آيات خارقات في مصر، ثم شق له البحر ليعبر باتجاه الشام، وبعد أن صار الطاغية فرعون في وسط البحر أعاد الله البحر إلى طبيعته فأغرقه وجيشه، وفجّر الله على يديه اثنتي عشرة عينا من الماء الزلال من قلب الصخر بصحراء سيناء، وأنزل لقومه المنّ والسلوى، وبقي ذكره عطرا إلى الآن وسط أغلب سكان الأرض!
– وجوه القلق والرجاء:
الوجه هو الجزء الأكثر حساسية بالنسبة للكائن الإنساني، ببعديه المادي والمعنوي وكأنه مرآة قلبه، حيث تنعكس عليه انفعالات القلب من قلق وحيرة، ومن رغبة ورجاء، ومن تعجب واستنكار، ولقد قال تعالى لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها…}[البقرة: ١٤٤]، حيث كان صلى الله عليه وسلم يرجو من الله أن يوليه قبلة إبراهيم وهي الكعبة، إذ كان ما زال في مطلع الدعوة الإسلامية يولي وجهه شطر بيت المقدس كما كان يفعل اليهود والنصارى.
ولأن الوجوه مرآة القلوب فقد قال تعالى في وصف المؤمنين: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} [الفتح: ٢٩]، وهي ليست شكلا ماديا، وإنما بريق خفي ونور يشع بالطيبة ويشي بالطمأنينة، وملامح عميقة تكشف عن قلب نقي وجوانح تزخر بالحب والصفاء، ولكن لا يرى هذه التقاسيم إلا أصحاب البصيرة الإيمانية والفطرة السوية السليمة!
– إقامة الوجه:
أمر الله محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: {وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين}[يونس: ١٠٥]، وإقامة الوجه هنا كناية عن تسليم الجوانح والجوارح كلها لله، بحيث لا يحضر أي منها في مواضع النهي ولا يغيب عن مواضع الأمر، ولذلك فقد كرر الأمر في سورة الروم بذات اللفظ، ثم كرره في ذات السورة بقوله: {فأقم وجهك للدين القيم} [الروم: ٤٣]، فإن هذا هو ما يليق بالدين القيم الذي تنزل من عند الحي القيوم، وسيظل قرآنه يهدي للتي هي أقوم حتى قيام الساعة!