جواهر التدبر (٢١٦)
استقامة طريق القرآن
بقلم أ. د. فؤاد البنا
ورد في عدد من آيات القرآن الكريم أن صراط الله مستقيم لا عوج فيه، وأمر الله باتباع هذا الصراط ونهى عن اتباع السبل التي عن يمينه وعن شماله، فقال عز من قائل: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام: ١٥٣]، ولخطورة القضية فقد اعتبر هذا الأمر وصيته تعالى لخلقه، ثم ختم بالقول: {لعلكم تتقون}؛ لأنه أتى بأمر ونهي، وجماع التقوى هي أن لا يجدك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك!
ويبدو أن الصراط المقصود هو القرآن الكريم، بدلالة أنه قال: فاتبعوه ولم يقل فسيروا فيه أو عليه، والاتباع لا يكون إلا للقرآن، وعن يمينه تتفرع سبل الجهل والضلال والغواية، وعن شماله تتفرع سبل الرياء والنفاق ومرض القلوب.
ومن المعلوم أن انحراف اليهود كان من جهة الإخلاص ولذلك سماهم القرآن بالمغضوب عليهم؛ ذلك أنهم عرفوا الحق وساروا في طريق الباطل بسبب مرض قلوبهم، بينما حدث انحراف النصارى من جهة العلم رغم تحليهم بالإخلاص ولذلك سماهم القرآن بالضالين الذين أرادوا الحق فأخطأوه. ولكي لا يقع المسلمون في ما وقع فيه هؤلاء أو أولئك، فقد منحهم الله القرآن وتعهد بحفظه بنفسه داعيا إياهم إلى الانشغال بالقرآن وحسن التعاطي معه حتى يهتدوا بهداه ويصطبغوا بصبغته.
وبالطبع فإن حجر الزاوية في التعاطي المفروض هو التدبر الذي يتكون من شقين:
الأول: الشق العقلي، وهو الذي يوفر العلم حتى لا يضلوا الطريق؛ ولذلك فقد ربط الله الازدياد في العلم بتدبر القرآن فقال تعالى: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما}.
الثاني: الشق القلبي، وهو الذي يوفر الإخلاص حتى لا يقع عليهم غضب الله!
وبعبارة أخرى إن العلم يهبهم بوصلة السير الحثيث على الصراط المستقيم، والإخلاص يمنحهم الزاد والعزيمة والدأب، في سبيل مواصلة السير في الطريق الطويل وتجاوز كافة المصاعب من أجل الوصول الآمن إلى الله تعالى.
ولأن الاستقامة بهذا الشمول وهذه الخطورة فقد فرض الله طلب الاستقامة منه في كل ركعة من كل صلاة، ذلك أنها آية من آيات الفاتحة ولا صلاة من دون فاتحة القرآن وأمّ الكتاب!
ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن الاستقامة منهج للالتزام الصارم بكل تعاليم القرآن في التعامل الفردي والأسري والاسلامي والإنساني، وكذا في الحكم والسياسة والقضاء والاقتصاد والاجتماع والفن وسائر ميادين الحياة، لذا فقد كان دائم الخوف من قول الله تعالى له: {فاستقم كما أمرت}، حيث ورد في الحديث أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشيء الذي جلب له الشيب باكرا، فقال: “شيبتني هود وأخواتها”، واختلفوا حول الشيء الموجود في سورة هود والذي سبب له الشيب، فذهب الشيخ محمد الغزالي رحمه الله إلى أن الذي فعل به ذلك هو قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت}!