جواهر التدبر (٢١٥)
عقلنةُ الجوارح
بقلم أ. د. فؤاد البنا
– نظر الأنعام:
خاطب الله نبيه محمدا عليه السلام، فقال له عن صنف من الناس: {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} [الأعراف: ١٩٨]، وهؤلاء هم من أوغلوا في التسفل والانحطاط حتى صاروا مثل الأنعام في عدم سماع أصوات الهداية رغم نقائها، وعدم رؤية الحقائق التي تعتمل في الواقع رغم نصاعتها، إنهم كالدواب في بهيميتها، فقد سخّروا جوارحهم فقط لصالح تلبية نزواتهم وتحقيق غرائزهم، وإن كان لهم من عقول نسبية فقد ملأوها بثقافة القطيع الاجتماعي الذي ينتمون إليه، ولذلك فإنهم في نظرهم للرسول، ولكل ممثل للحق في أي زمان أو مكان، لا يرون شخصيته النبوية أو الدعوية وإنما يرونه في صورة منافس للقطيع الذي ينتمون إليه، ولأن عقولهم معطلة فإنهم قد يسيرون في هذا الدرب إلى آخر المشوار، ولا غرابة أن نجد هؤلاء يقولون في الآخرة: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك: ١٠]، فقد مكنتهم عقولهم أخيرا من إدراك أنهم كانوا لا يعقلون!
– فهم الجوارح:
وصلت عناية القرآن بالعقل والفكر والفهم إلى سدرة المنتهى، ومن صور هذا الاهتمام أنه جعل الجوارح أداة للفهم مثل العقل والقلب، فالسمع لا يقصد به سماع الصوت فقط وإنما فهمه أيضاً، كما قال تعالى: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون}، فلا يقصد هنا أن آذانهم تعاني من الوقر أو الصمم وإنما من عدم الفهم.
وكذلك الأمر بالنسبة للنظر فإن آيات كثيرة في القرآن الكريم تدعو للسير في الأرض والنظر إلى آيات الله، ولا تقصد النظر المجرد بجارحة العين وإنما النظر ببصيرة القلب وكاشفة العقل، أي الفهم والاستيعاب والاستفادة من هذه الآيات في دائرتي الاستهداء و الاستثمار، وهذا هو الاستبصار المطلوب بآيات الله.
– عمى العقول:
إن عدم القدرة على رؤية العواقب التي تتخفى وراء جدران الوقائع وتختبئ في ردهات الحاضر، وعدم إبصار المآلات التي تلوح في الأفق الملبد بغيوم الفتن، لهو صورة من صور العمى الذي لا يمكن أن يصاب به صاحب الإيمان الحي؛ ولهذا فقد وصف الله غير المؤمنين بأن {لهم أعينٌ لا يبصرون بها}، ومركز الرؤية في هذه الحالة هو القلب، كما قال تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}.
والعكس بالعكس فإن صاحب الإيمان الحي يمتلك البصر الذي يعينه على استبصار المستقبل، ويتحلى بالبصيرة الحادة التي تعينه على ارتياد المستقبل ليتمكن من اكتشاف المآلات وإدراك العواقب، ومن ثم فإنه يبني خططه على هذا الأساس.