مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢١٢) .. المتابعة الحثيثة للقرآن

جواهر التدبر (٢١٢)

المتابعة الحثيثة للقرآن

بقلم أ.د.فؤاد البنا

يشتمل القرآن الكريم على منهج متكامل للتعامل الأمثل مع كل الأشياء بما فيها التعاطي مع القرآن نفسه، ابتداء من التلاوة والفهم والخشوع، ومرورا بامتلاك قواعد التنزيل السوي على الواقع، وصولاً إلى التطبيق والتجسيد الصحيحين لقيمه على أرض الواقع، مثلما كان الصحابة الكرام يوصفون بأنهم مصاحف تمشي على ظهر الأرض!
وللأسف الشديد فإن بعض العلماء الذين ظهروا بعد قرون الخيرية الثلاثة الأولى، قد تأثروا بثقافة التخلف التي غشيت عصرهم وببعض علل التدين التي وفدت إليهم من الأمم الأخرى، ومن ثم فقد اختزلوا المنهج القرآني للتعاطي مع القرآن، في التلاوة والحفظ، مثلما اختزلوا الإيمان ذي البضع وسبعين شعبة في أركان الإيمان الستة ولا سيما في التوحيد، واختزلوا العبادة المنبثة في أرجاء الأرض ومجالات الحياة في الشعائر التعبدية متمثلة في الصلاة والصوم والحج، واختزلوا العلوم التي تجلب المصالح للناس وتدرأ عنهم المفاسد في علم الشريعة وسموها العلوم الشرعية…الخ
وفي المقابل فقد تم إهمال التدبر والتنزيل، بل واختزال التطبيق في عبادات فردية لازمة ومعظمها متصلة بالله، مع أن الهداية الشاملة للأفراد والأسر والجماعات والأمة هي الغاية من تنزيل القرآن!
ولأنه لا توجد آية قرآنية تدعو إلى حفظ القرآن على سبيل الإيجاب والتعبد إطلاقا، فقد رأينا من يؤولون آيات التدبر والتعقل لصالح الحفظ والتلاوة، وعلى سبيل المثال وجدنا من يفسر الادكار في قوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} بالحفظ!!
وفي قوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته}، فسّر أغلب المفسرين التلاوة هنا بالمعنى المتبادر إلى الذهن وهو قراءة الحروف مع تطبيق أحكام التجويد كافة، ويبدو أن المقصود بالتلاوة في الآية هو الاتباع، أي يتبعونه حق اتباعه، كما قال ابن تيمية رحمه الله، مستدلاً بأن التلاوة تأتي بمعنى الاتباع، كما في قوله تعالى: {والقمر إذا تلاها} أي إذا تبعها.
ويمكن القول بأن الآية المركزية في مضمار توضيح طريقة التعاطي مع القرآن، هي قوله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب}، فالقرآن محدود في مبانيه لكن معانيه من البركة بمكان بحيث تستطيع أن تجيب عن كل سؤال وتحل كل إشكال، وتصف الدواء لكل معضلة والمخرج من كل أزمة، ولكن ذلك لا يتم من دون إعمال منهج التدبر بشقي التفكر العقلي والتخشع القلبي، بحيث يمنح التفكر للمؤمن البوصلة للسير المستقيم ويوفر الخشوع القلبي الزاد لمواصلة السير في مختلف الظروف، سواء كان الابتلاء بالسراء أو بالضراء، ويبدو أن هذه هي الحكمة من اختيار صفة البركة للقرآن من بين صفاته الوفيرة في مقام التدبر والتذكر، كأنه تعالى يقول بأن علم الله وعظمته وحكمته قد انعكست على القرآن بالبركة، بحيث يحتوي على كل ما يحتاجه المسلمون في تنظيم سائر شؤون حياتهم، ولكن عليهم أن يستخرجوا مطلوباتهم من خلال التدبر، بحيث يربطون الجزئيات بالكليات والفروع بالأصول والوسائل بالمقاصد والأساليب بالغايات، ولا ينسون بأن فردسة الأرض وفق منهج الله هي الطريق لاستعادة الفردوس السماوي المفقود!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى