مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٠٩) .. التنوع قوة للمناعة الاجتماعية

جواهر التدبر (٢٠٩)

التنوع قوة للمناعة الاجتماعية

 

بقلم أ.د.فؤاد البنا

احتفى القرآن بالتنوع في مواضع كثيرة من سوره، وامتنّ الله عز وجل على عباده بنعمة التعدد الذي أوجده لهم في أحضان الطبيعة، ومن صوره تعدد الألوان في المخلوقات كلها، مثل ألوان التربة والصخور كالجُدد البيض والحُمر والغرابيب السود [سورة فاطر: ٢٧]، وفي هذه التربة يتم استنبات البذور التي تُسقى بماء واحد فيُخرج الله به زرعا مختلفاً ألوانه [سورة الزمر: ٢١]، ومن الأشجار تظهر ثمرات ذات ألوان مختلفة [سورة فاطر: ٢٧]، رغم أنها مزروعة في تربة واحدة ويسقيها الماء ذاته، وتترعرع في نفس الظروف والمناخ، وينتقل القرآن للحديث عن الكائنات الحية فيقول: {ومن الناس والأنعام والدواب مختلف ألوانه كذلك} [فاطر: ٢٨].

ولأن القرآن يقدم لنا التنوع السائد في مشاهد الطبيعة، يقدمه في معرض الامتنان الرباني على البشر، فإننا نستنتج من ذلك أن التنوع نعمة جزيلة، ثم إن القرآن يقدم لنا تعدد الألوان كآيات وهي المعالم التي أوجدها الخالق على طريق الهداية من أجل ضمان الوصول الآمن، ويطالبنا بأن نمارس التفكر فيها والاعتبار بها، مثل قوله تعالى: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم..}[الروم: ٢٢]، وبالطبع فإن استخدام مصطلح الآيات يقتضي التفكر والاعتبار.

ويضرب لنا القرآن المثل بفائدة التنوع من خلال العسل الذي تنتجه حشرة صغيرة وهي النحل، كما قال تعالى: {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس} [النحل: ٦٩]، ومن المعلوم أن العسل أقوى عنصر لتقوية جهاز المناعة في جسم الإنسان، وذلك بسبب التنوع الآتي من كل الأزهار والثمار، حيث تمتص النحل رحيقها وتمزجها في بطونها بطريقة رتبها الله بقدرته وحكمته، حتى يصبح للعسل ذلك التأثير الساحر وكأنه إكسير حياة!

وتؤكد الوقائع الحياتية أن المجتمع الذي يمتلك تنوعا منصهرا في بوتقة الثوابت العامة والمصالح المشتركة، أنه صاحب مناعة اجتماعية عالية جدا، مما يجعله في غاية التماسك والصلابة، بصورة تجعل من المستحيل أن يؤتى من خارجه!

وهذا مشاهد ماضيا وحاضرا، فإن التنوع نعمة تتطلب التوظيف لا نقمة تتطلب المحاصرة، ومنحة تستوجب الشكر لا محنة تستدعي الصبر، لكن النعمة قد تنقلب إلى نقمة إذا انتقل التنوع من ساحات التكامل إلى ضوائق التآكل، والثقافة الحية هي التي تستطيع توظيف التنوع لإذكاء الطاقات وتسريع عمليات البناء والتنمية، بحيث تقيم مجتمعا متعاونا بتخصصاته المختلفة مثل مجتمع (النحل) أو (النمل)، بينما تقوم الثقافة السقيمة بإيقاظ التناقضات النائمة وإشعال مواقد الفتنة، جاعلةً المجتمع الذي يدين بها مثل مجتمع (العنكبوت)!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى