جواهر التدبر (٢٠٨)
لقوم يؤمنون: الإيمان قبل القرآن
أ. د. فؤاد البنا
تساءل بعضهم فقال: لقد وصف الله القرآن الكريم بأنه هدى ورحمة، وها نحن نرى ملايين الحفاظ للقرآن وعشرات الملايين على الأقل ممن يتلونه يوميا، لكن أين الهداية الشاملة للقرآن في واقع هؤلاء؟ وأين الرحمة السابغة التي انعكست على حياة المجتمعات التي يستوطنونها؟!
وبالطبع يمكن الرد على هذا التساؤل المهم بعشرات الآيات التي تبين أن الخلل في طريقة تعاطي المسلمين مع القرآن؛ إذ لم يحسنوا فهم نصوصه، ولا تنزيل مراده بصورة سوية، ولا تجسيد تعاليمه في الواقع، لكننا سنكتفي في هذا المقام بآية واحدة يقول الله فيها: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون} [الأعراف: ٥٢].
وبتأمل الآية يتضح أن المشكلة تكمن في الإيمان الذي ينقص أغلب المسلمين، فقد أوتي الصحابة الكرام الإيمان قبل القرآن لكن كثيرين من معاصرينا أخذوا القرآن من دون الإيمان فلم تثمر أشجاره في أخلاقهم وأعمالهم، والإيمان منظومة كبيرة وأول أجزائها هي الإيمان بمنهج القرآن في التعاطي مع القرآن، ولب هذا المنهج هو التدبر، والتدبر عملية نسبية تبدأ من فهم المعنى البسيط لما يُقرأ وتصل إلى الغوص في أعماق النصوص لاستنباط معاني جديدة واستخراج هدايات تحتاجها الوقائع المتجددة في حياتنا!
وفي سائر الأحوال لا بد أن يتغلغل التدبر من خلال مستويين:
الأول: التفكر العقلي الذي يحرك مدارك العقل كلها من أجل فهم الآيات من خلال أبعاد عديدة، أهمها: السياق، المقطع، السورة، وكونه مكياً أو مدنيا، مع الاستعانة بظروف تنزل القرآن وما صح من أسباب النزول، وبما لا يخالف أي قاعدة من قواعد اللغة العربية الفصحى التي تنزّل بها القرآن، ولا يناقض حقيقة من الحقائق العلمية، ولا يصادم مقصدا من مقاصد الإسلام.
الثاني: الخشوع القلبي، بحيث تنفتح صروح الفؤاد وتتفتح شغاف القلب لإدراك جلال القرآن وجماله، الجلال الكامن في معانيه والجمال الثاوي في مبانيه، واستحضار عظمة من يخاطبنا بالقرآن وكأنه يتنزل علينا الآن، والانفعال بالوعد والوعيد الواردين فيه، وإطلاق الخيال للعيش في نفحات الجنة وما تحتضن من آلاء والاقتراب من لفحات النار وما تحوي من أهوال!
وينبغي أن ندرك أن التدبر أشبه بالبُراق الذي ينقلنا إلى آفاق سماوية سامية، لكنه لا يطير من دون جناحي العقل والقلب، ويخبرنا التأريخ بأن الخوارج كانوا ينفعلون بالقرآن على مستوى الخشوع القلبي دون أن يمرروه على العقل، فكانوا من أشد الناس بكاء أثناء التلاوة لكنهم بسبب عدم تشغيل بوصلة العقل ارتكبوا جنايات عظيمة في حق الأمة وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا، وتسببت أفاعيلهم في إبكاء ملايين المسلمين دما، وفي المقابل ظهرت مجموعات من المعتزلة وأضرابهم ممن أحسنوا تفعيل العقل في فهم القرآن وغاصوا في نصوصه مستخرجين الكثير من أسراره، لكنهم لما لم يمرروه على القلب، أصابهم الغرور ومارسوا الكثير من القساوة مع مخالفيهم وأساء بعضهم الأدب مع ربهم!