مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر (٢٠٦) .. والله سريع الحساب

جواهر التدبر (٢٠٦)

والله سريع الحساب

بقلم أ.د.فؤاد البنا 
من المعلوم أن الجزاء الإلهي سواء كان ثوابا أو عقابا، إنما يكون في الآخرة حيث الخلود الأبدي في الجنان أو في النيران بعد الامتحان الدنيوي الذي امتد طيلة عمر الإنسان، لكن الله قد يثيب على بعض الأعمال في الدنيا قبل الآخرة لحِكم يعلمها، وقد يعاقب في دار العمل قبل الوصول إلى دار الحصاد، وهذا من المعاني التي يحملها وصف المولى لنفسه بأنه {سريع الحساب} والتي في ثمانية مواضع من القرآن الكريم، كما في قوله تعالى وهو يندبنا لتكثيف الدعاء عند المشاعر المقدسة في أكناف بيته العتيق بمكة المكرمة: {ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب} [البقرة: ٢٠١، ٢٠٢]، وجملة {أولئك لهم نصيب مما كسبوا} تشير إلى الجزاء الدنيوي الذي يحصده المرء في دار المعاش، مثل مشاعر السرور التي تغمره فتجعل للحياة لذة وللعبادة بهجة، أو الشغف الذي يسكنه فيجعله يستمتع بأبسط الأشياء ويغرق في بحبوحة السعادة، أو البركة التي ترافقه فلا يعرف الحاجة ولا تصيبه الفاقة، أو التوفيق الذي يصاحبه في حياته فلا يحيد ولا يخيب، وقد وردت في بعض الأحاديث صور من الثواب الذي يحصده المؤمن في حياته. ويؤكد هذا المعنى خاتمة الآية التي تقول {والله سريع الحساب}.
وفي المقابل هناك خطايا تستنزل الغضب الإلهي وتستعجل الحساب الرباني، وتستوجب العقاب الدنيوي قبل الأخروي، مثل عقوق الوالدين وقطع الأرحام والزنا.
وأهم من هذه الذنوب الفردية، الخطايا الاجتماعية المتصلة بالقيم المسؤولة عن تحديد مكانة أي أمة وسط الأمم، ذلك أنها تدفع أصحابها نحو التقدم الحضاري أو ترمي بهم في قارعة التخلف، فإن عقاب الخطايا الاجتماعية مقدم في الدنيا قبل الآخرة، مثل الظلم والاستبداد والجهل والفرقة والعطالة عن العمل وتضييع الأوقات وهدر الطاقات والسفه في الأموال، وفي المقابل فإن قيم العدل والحرية والعلم والعمل والوحدة واستثمار الأوقات واستسناح الفرص والاقتصاد بالأموال، هي الروافع الحضارية التي يقوم عليها بنيان أي أمة!
وقد استقرأ العلامة ابن خلدون الحضرمي عوامل قيام الدول وسقوطها وأدرك كيف تصنع هذه العوامل بأصحابها، حتى أنه عَنْون أحد فصول كتابه (المقدمة) بالقول “فصل في أن الظلم مؤذن بخراب العمران”، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أبعد من ذلك حينما أكد أن “الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة على الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة”، وهذا ما نشاهده في واقعنا عياناً بيانا!
فهل أدركنا ماذا يعني أن يكون الله (سريع الحساب)؟ ولماذا كررها ربنا ثمان مرات في القرآن بجانب مرتين بصيغة {سريع العقاب}؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى