جواهر التدبر (٢٠٤)
حلول عذاب الخزي بالمسلمين
بقلم أ. د. فؤاد البنا
من صور العذاب التي توعد الله بها من يحيدون عن هدايته وينحرفون عن صراطه المستقيم، عذاب الخزي، والعجيب أن المسلمين لم ينتبهوا لهذا العذاب الوارد في القرآن الكريم كما يفعلون مع العذاب الاستئصالي الذي اقتلع به قوم نوح عبر الطوفان الذي أغرقهم، وقوم هود عبر الريح الصرصر الذي قضى عليهم ودمر خضراءهم، وقوم صالح عبر الصيحة التي جعلتهم أثرا بعد عين، وقوم لوط عبر الخسف الذي نقلهم إلى الأرض السفلى نتيجة تسفلهم المعروف!
لم ينتبه المسلمون لعذاب الخزي رغم انه العذاب الذي يحيق بهم منذ زمن، وجعلهم مطمعا لأمم أقل عددا وعدة منهم بل وصيرهم مضرب المثل في الذل والهوان، حتى أن الرئيس الأرجنتيني حينما قال له صحفي: كيف تتجرأ على مواجهة بريطانيا وهي دولة عظمى؟ قال له: وهل تظنني عربيا؟!
لقد أورد القرآن في مواضع عديدة عذاب الخزي، وذكر أنه قسمان دنيوي وأخروي، وساق بعض الأسباب التي تستوجب هذا العذاب!
ومن الخطايا والجرائم التي تستوجب عذاب الخزي في الدنيا:
– الجدال في الله من غير علم والتكبر على أهل الحق والقيام بوظيفة إبليس في إغواء الناس، قال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق} [الحج: ٨، ٩]. وثاني عطفه هو الذي يلوي عنقه في تكبر وغطرسة على أهل الحق، وكم في مجتمعاتنا من هؤلاء الذين يتقولون على الله ويتكبرون على خلقه!
– الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، فقد أورد القرآن نماذج من جرائم بني إسرائيل ثم قال لهم: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} [البقرة: ٨٥]، ولو تأملنا في الجرائم التي ارتكبها بنو إسرائيل والمذكورة في الشق الأول من الآية السابقة لوجدنا أنها حاضرة بقوة في واقع المسلمين، ثم إنها ناتجة عن الكفر بتعاليم بعض الكتاب تقديما لأهواء الأنفس وثقافة القطيع وطاعة لمن ترببوا على الناس من الزعماء والعلماء!
– منع مساجد الله من القيام بوظائفها المعروفة في الأدبيات الإسلامية والسعي في خرابها، وفي هذا المضمار قال تعالى وهو يصف الجريمة ويحدد العقاب: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [البقرة: ١١٤]. ولما كانت الصحوة الإسلامية ذات حضور عريض في مجتمعاتنا الإسلامية فإن كثيرا من الكبراء لا يملكون الشجاعة في الغالب لتخريب المساجد حسيا، لكنهم يخربونها معنويا، من خلال إبعاد العلماء العاملين عنها وتنصيب الضعفاء أو المنافقين عليها، بحيث يقومون بتسويق الباطل وتشويه الحقائق وأهل الحق من على منابر المساجد التي حولوها إلى منابر لتخريب العقول وإفساد النفوس!
– ممارسة الحرابة والإفساد في الأرض، قال تعالى:{إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [المائدة: ٣٣]، وكم في بلداننا من أنظمة ومنظمات تمارس دور قطاع الطرق وتشيع الفساد في الأرض، بل لقد أوجدت بعض الأنظمة أحبار سوء يقومون بقطع الطريق بين الإنسان وربه!
– اجتراح جريمة النفاق، فقد نهى الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم عن الحزن من أفعال الذين يسارعون إلى الكفر ممن ادعوا الإيمان بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ثم ختم النداء بقوله: {أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم}[المائدة: ٤١].
وبالطبع فإن عذاب الخزي الذي يضرب جموع الأمة اليوم إنما هو نتيجة لمقدمات ذكرنا بعضها هنا بإيجاز شديد، ولا يمكن للنتيجة أن تختفي ما دامت المقدمات حاضرة في حياة الأمة، وهذا مفهوم بالمنطق العقلي والمنهج الشرعي، ويؤكد الله هذا الأمر بقوله تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين}[يونس: ٩٨]. ويشير القرآن هنا إلى القرى التي كفرت بالرسالة والمرسِل وبالمرسلين بعد أن رأت المعجزات الخارقة فعاقبها الله بعذاب استأصل شأفتها مثل عاد وثمود، لكن قوم يونس لم يصلوا إلى هذا الحد؛ ذلك أن يونس عليه السلام لم يستنفذ الأسباب بل غضب من قومه وتركهم فعاجله الله بالعقوبة، ثم تاب عليه بعد أن أخرجه من بطن الحوت، وكأن ذلك كان سببا في عدم نزول العذاب الاستئصالي على أهل نينوى، وحينما عاد يونس لاستئناف رسالته وجد آذانا صاغية وقلوبا متقبلة فاعتنقوا عقيدة الإيمان بصدق، فرفع الله عنهم عذاب الخزي والهوان، وهو العذاب الذي يُشعر الناس بصغارهم ويزرع في مواجيدهم مشاعر الضآلة والهوان، مما يجعل أضعف الناس أقوى منهم فيمارسون عليهم جبروتهم ولا
يتورعون عن إخضاعهم بالقوة، وعن سلبهم حقوقهم والاعتداء على حرماتهم!
وكما نرى في أغلب مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة فقد تسلط عليها زعماء أقزام، فساموها سوء العذاب وأذاقوها أقسى الويلات، وجرعوها أصناف الهوان وهي خاضعة خانعة، وتخاف حتى من الأنين، ثم سلط على الزعماء أعداء من الخارج جرعوهم أصنافا من الهوان، بل سلط عليهم أكثر الأمم ذلاً وأقلها عددا عبر التأريخ، فاحتلوا القلب النابض للأمة وفعلوا الأفاعيل بالشعب الفلسطيني والجميع يشاهدون بصمت قاتل وهوان مرعب، مما دفع شعوب العالم التي تشاهد ما يحدث إلى إبداء مشاعر من الشفقة والاحتقار في آن واحد!
ويا لعذاب الخزي من عذاب!