مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر(٣٠٠) .. مقومات الوعي الجمعي(١٠)

جواهر التدبر(٣٠٠)

مقومات الوعي الجمعي(١٠)

 

بقلم أ.د.فؤاد البنا

– ربط قيمة الذُّل بالعزة:
جاء في وصف القرآن للمؤمنين قوله تعالى: {أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين..} [المائدة: ٥٤]، وكأنه تعالى يشير بهذا الربط بين مشاعر الذلة والعزة، إلى أن طاقة الذل عندما تنصرف وسط المؤمنين، فستذهب طاقة العزة نحو الكافرين بالضرورة، والعكس صحيح، مع التذكير بأنه حتى في العلاقة مع الكافرين فإنه لا يجوز الكبر والغرور  عليهم، إلا وقت الحرب نفسها وضد المحاربين كصورة من صور الحرب النفسية كما قال صلى الله عليه وسلم عن مِشْية الصحابي أبي دجانة رضي الله عنه في غزوة أُحُد التي كان فيها قدر من التبختر والخيلاء: “هذه مِشية يُبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع”!
والعزة فضيلة تقع بين رذيلتي الكبر والمهانة، وفي الآية إشارة إلى أن المجتمع الذي يتخلى عن هذه القيم المتلازمة سيخسر مكانته لصالح غيره من الأقوام، ولذلك ختم الله الآية بفاصلة فيها إيماء إلى هذه الحقيقة: {ذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء والله واسع عليم}. وبالطبع فإن مشيئة الله لا تظلم أحدا لأنها لا تنفصم عن إرادة الإنسان ولا تتجاوزها، وهذا منتهى العدل الإلهي.

– تجفيف منابع الفردية الطاغية وإطلاق التربية الشخصية:
يؤكد علماء الاجتماع أن الفرد يختلف عن الشخص، فالفرد يحب الانفراد بنفسه وقد تتورم ذاته فتجعله يؤثر العيش بعيدا عن الآخرين، وإذا اختلط مع الناس فإنه يشعر بالكبر نحوهم ويمارس الاستعلاء ضدهم، بينما الشخص كائن اجتماعي يملك الاستعداد للائتلاف مع أبناء المجتمع الذي يعيش في وسطه!
ولأننا نريد الفاعلية في الكائن الآدمي فإننا بحاجة إلى الجمع في تكوينه بين بعض الخصائص الفردية وبالتحديد التي تجعله متميزا عن الآخرين بمواهبه وقدراته، وبين الخصائص الشخصانية التي تجعله مثل الآخرين في استعداده للاندماج مع الآخرين والإسهام في تكوين صرح المجتمع الخالي من الثقوب والثغرات!
وحينما نتدبر الآيات ذات الصلة بالمؤمن الصحيح في ذاته فإننا نجده متصفاً بمزيج من الصفات الفردية والاجتماعية؛ بحيث ينهمك في تأسيس ذاته وتنضيج عقله وتزكية نفسه، وفي ذات الوقت فإنه ينفتح على الناس ويتوسع في خدمة مجتمعه ما استطاع إلى ذلك سبيلا!
ونجده يعتز بذاته ويعرف قدر نفسه لكنه يذل لأبناء دينه ويضع جناحه لأقاربه وللضعفاء من الفقراء والمساكين وذوي الإحتياجات الخاصة!
ومن ثم فإننا نحتاج إلى تعميق التفكير العقلي الذي يجعل الفرد متميزا عن الآخرين، وإلى ترسيخ التشابه القلبي الذي يجعله مندمجا مع الآخرين، ولقد منّ الله على المؤمنين بتأليف القلوب فقال: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم} ولم يقل (بين عقولكم)، وهذا يعني أن الكائن الفاعل هو الذي يجمع بين بُعد عقله عن الناس وقُرب قلبه منهم!

– توريث همّ الأمة للأجيال:
من يعرف طبيعة الإيمان كما يتبدى عند تدبر القرآن، فسيتضح له بأن المؤمنين حقاً يجعلون من أنفسهم آنية يملأونها بهموم الأمة أولاً وبهموم أنفسهم وأهاليهم ثانياً، ذلك أنهم يعلمون أن الآخرة خير لهم من الأولى، وأن الله خلقهم للابتلاء والعبادة، بحيث يحرصون أن لا تصير الدنيا أكبر همّهم ولا مبلغ علمهم ولا غاية رغبتهم، بعكس غير المؤمنين الذين تمسي أنفسهم غاية في حد ذاتها، كما قال تعالى عن بعض هؤلاء: {وطائفة قد أهمّتهم أنفُسُهم …}. ومن أهمّتهم أنفسهم لا يتورعون عن استحلال حرمات بقية الخلق أو بعضهم، ولا يترددون عن الانسلاك في أي طريق يحقق لهم رغائبهم، وهذا منتهى الأنانية!
وعكس الأناني هو الشخص الاجتماعي الذي يعيش لمجتمعه، والاجتماعية درجات وما يزال المرء يعتلي درجات الاجتماعية حتى يصل إلى الذروة ويصير أمّة!
ومن المعلوم أن الله تعالى قد وصف خليلَه إبراهيم عليه السلام بأنه أمَّة وحدَه، ولو تأملنا سيرته ومسيرته وفحصنا تصوراته وتصرفاته؛ لوجدنا أنه كان أمّةً في أخلاقه وخلاله الشاملة، وأمّةً في أبعاد شخصيته المتكاملة، حتى كادت بشريته أن تضمحل، ثم إنه كان يَحمل هَمّ الأمة بين جوانحه الإنسانية الواسعة، ليس الأمة الأفقية التي تعيش في عصره فقط، ولكن الأمة الرأسية التي ستأتي من نسله إلى قيام الساعة، ولقد أذكى اهتمامه بأمته هِمَّتَه، فظهر في أقواله وأفعاله بل وفي دعائه، ومن ذلك توجهه إلى ربه مع ابنه إسماعيل قائلين: {ربَّنا واجْعَلنا مُسْلِمَين لَكَ ومن ذُرِّيَّتنا أمّةً مُسلمةً لك..} [البقرة: ١٢٨]، وبالطبع فإن ابن الأمّة المسلمة هو الذي ينطلق من تصوراتها ويتخلَّق بأخلاقها، وتمتلئ جوانحه بآمالها، ويتسلح بهمّته لرفع همومها، بحسب إمكاناته وما يمتلك من درجات الوسع.
وهو نفس الهمّ الذي جعل حفيده يعقوب عليه السلام حينما أزفت ساعة موته يجمع أبناءه ليتأكد من توطن أساس الأمة في قلوبهم؛ وهو عبادة الله الذي يجعلهم يدورون جميعا في نفس الفلك مستسلمين تماما لأوامر الله ونواهيه، فقال لهم، كما ذكر القرآن: {ما تعبدون من بعدي…} [البقرة: ١٣٣].

لمتابعة هذه السلسلة وغيرها من كتابات وكتب د. فؤاد البنا تابع قناة الكاتب على التليجرام:
https://t.me/ProFB

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى