مقالاتمقالات المنتدى

جواهر التدبر(٢٨١) .. دور المعاصي في حلول الذل والهوان(١)

جواهر التدبر(٢٨١)

دور المعاصي في حلول الذل والهوان(١)

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا

– صناعة المعاصي للهوان اليهودي:
للمعاصي تأثير رهيب على القوام المعنوي للإنسان، حيث تحمل كل معصية بذرة لنبتة خبيثة تسكن القلب، ومنها نبتة الذل والمسكنة. ولأن بني إسرائيل أكثر الأمم عصيانا لإلههم وتمردا على أنبيائهم، وأشدها تلاعبا بكتب ربهم وتعاليم دينهم؛ فقد كتب الله عليهم الذل والمسكنة إلى قيام الساعة، كما قال تعالى: {ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله} [البقرة: ٦١]، والاستثناءات البسيطة لا تلغي القاعدة، سواء حانت استثناءات زمانية أو مكانية، وهذا الضرب من الذل في الدنيا غير ذل الآخرة، وللعلم فإن جميع الآيات التي تحدثت عن الذل كعقاب دنيوي من الله على ارتكاب المعاصي جاءت في حق بني إسرائيل؛ بسبب كفرهم وتحريفهم لكتبهم وقتلهم لأنبيائهم واستحلالهم لحقوق غيرهم وحرماتهم، واقترافهم لكافة الكبائر والخطايا!
ولأنهم كانوا أذلة معتدين، فلم تقم لهم دولة طيلة ألفي عام، ولقد اشتهروا بجبنهم في أدبيات كل الشعوب التي عرفتهم عن قرب وعاشرتهم بصورة مباشرة، ويغني عن ذلك كله شهادة من يعلم كل شيء ولا يظلم أحدا، وهو الله تعالى، فقد قال في محكم كتابه: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة}، أي أيّ حياة مهما امتلأت بالذل والهوان!
وبالطبع فإن المعاصي الجالبة للذل والصَّغار هي جميع الكبائر المقابلة لشُعب الإيمان التي تبلغ بضعا وسبعين شعبة، مع الاختلاف النسبي بينها!
وإذا كانت المعاصي اللازمة أي التي بين العبد وربه تزرع الذل في النفوس بطريق غير مباشر، فإن المعاصي المتعدية والمتصلة بالقيم الحضارية وحقوق الناس تنتج ذلاً مباشرا وملموسا، فالجاهلون ذليلون أمام العالِمين، والظالمون ذليلون أمام العادلين، والعبيد ذليلون أمام الأحرار ، والعاطلون عن العمل ذليلون أمام العاملين، والفقراء أذلاء أمام الأغنياء، والمتفرقون أذلاء أمام المتوحدين، والضعفاء أذلاء أمام الأقوياء، وهناك ألف برهان واقعي على أن الأمة الغثائية تعاني من الهوان أمام الأمة الفاعلة، وهنا تنشأ سنة التقليد الأعمى للعدو القوي، فالضعيف مولع بتقليد القوي، كما قال ابن خلدون من استقرائه لعشرات. القرون من أحداث التأريخ!

– خوف الكليم موسى:
في قصة موسى عليه السلام درس بليغ يُبرز دور المعصية في زراعة مشاعر الخوف داخل جوانح الإنسان، فعندما أخبر الله كليمه بأنه رسول ومنحه المعجزة فقال: {وألقِ عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون. إلا من ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم} [النمل: ١٠، ١١]، وكأن الله يخبرنا بأن شعور الخوف الذي انبعث من قلب موسى إنما هو من آثار الذنب الذي ارتكبه من غير قصد حينما قتل القبطي الذي كان مشتبكا مع واحد من قومه، وكان موسى قد اعترف على الفور بظلمه لنفسه وطلب من الله أن يغفر له ذنبه، فقال: {ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم} [القصص: ١٦] وهكذا فإن ميزان الله حساس جدا ولا سيما في هذا الشأن الذي يتصل بحقوق الناس وخاصة الدماء، ولذلك ظهر الأثر رغم وجود ثلاثة أمور:
الأول: أن القتل غير مقصود، فقد أراد موسى أن يضربه ضربة تدفعه عن الشخص الذي استنجد به من قومه، لكن الوكزة قضت عليه، كما جاء في الآية ١٥ من سورة القصص، وذلك بسبب قوة موسى المفرطة!
الثاني: أنه تاب فاعترف بذنبه وطلب المغفرة من الله فغفر له، غير أن أثر الذنب بقي بسبب أنه متصل بحق من حقوق الإنسان!
الثالث: أن الذنب وقع على يد أحد أولي العزم من الرسل وقبل أن يصبح نبيا، وكأنه تعالى يقول لا فرق بين الناس أبدا في الكرامة والحقوق، ولو كان المعتدي أحد أعظم الرسل والمعتدى عليه كافرا على ملة فرعون!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى