جوانب التربية العقلية والعلمية في الإسلام (5)
بقلم مقداد يالجن
خامسا: تكوين روح الالتزام بالعلم والمسئولية العلمية أمام الله
ولا يكفي تكوين العقلية العلمية المتقدمة ولا يكفي أيضاً لنتقدم علمياً واجتماعياً بمجرد إجادة التعلم والتعليم لأنه لن يغير من الأمر شيئاً إذا لم نلتزم بما نتعلم في الحياة العلمية، إذ ما الفائدة من أن يصبح الإنسان طبيباً مثلاً ولا يراعي قوانين الصحة في حياته العلمية وما الفائدة من أن نتعلم مبادئ الأخلاق ثم لا نلتزم بها في حياتنا، ولهذا إذا لم نُكوِّن روح الالتزام بالعلم والأخلاق معاً فلا ينبغي أن نعلمهم ولا ينبغي أن يتعلموا العلم من غير أخلاق.
ولذلك أمر الإسلام بالالتزام بالعلم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (تعلموا العلم وانتفعوا به ولا تتعلموه لتتجملوا به) [سنن أبي داود 4/338 حديث 5147.].
والإنسان سوف يُسأل يوم القيامة عن العمل به فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه وعن علمه ما فعل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه) [صحيح البخاري (فتح الباري) 1/169 كتاب العلم]
وقال صلى الله عليه وسلم: (يا حملة العلم اعملوا به فإنما العالم من عمل بما علم ووافق علمه عمله وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف عملهم علمهم وتخالف سريرتهم علانيهم) [المرجع السابق (فتح الباري) 1/185 باب فضل من علم وعلم]
ثم أنذر الإسلام الذين يتعلمون ولا يعلمون بعلمهم بعقاب شديد يوم القيامة فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يؤتي بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر فيقول بلى كنت أمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه) [سنن الدرامي مقدمة 1/86 كتاب العلم].
وقال تعالى تشنيعاً بمثل هذا الأمر: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3) ]. {الصَّف}.
وكل هذا مبني على أساس نظرية مهمة وهي الجمع أو الربط بين نظرية المعرفة ونظرية السلوك أو بين المعرفة والعمل بها وبين العقيدة والعمل بمقتضاها؛ ولهذا نجد بصفة عامة في القرآن الاقتران بين الإيمان والعمل الصالح أو الإيمان والتقوى والمكافأة لمن يجمع بين الأمرين؛ فقال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ] {فصِّلت:8} ، [وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ] {فصِّلت:18}، [وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] {الشُّورى:26} ، لأنَّ العمل هو الدليل على صدق الإيمان وهو الذي يجعل الإيمان مقبولاً، فقال تعالى [إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ] {فاطر:10} وكأن الكلم الطيب وهو الإيمان لا يصل إلى المكان المطلوب إنما يرفعه ويوصله العمل.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل إيمان بلا عمل ولا عمل بلا إيمان) [سنن الدرامي 1/87] ذلك لا خير في إيمان لا يصل إلى مستوى يدفعه صاحبه إلى العمل بمقتضاه ولا خير في علم كذلك لا يعمل به.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ من علم لا ينفع به فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من أربع من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ونفس لا تشبع ودعاء لا يسمع) [المرجع السابق 1/110].
ثم إن العمل يُعد اختياراً للمعرفة ولابدَّ من أن يختبر الإنسان معارفه ليعرف صحيحها من باطلها.
وأخيراً: فإن العمل وسيلة للتقدم العلمي لأنه يكشف عن الحقائق ويؤدي إلى خبرات باعتباره اختباراً وتجربة للمعرفة والعلوم وبخاصة العلوم العلمية لأنها تتقدم بالتجربة، ثم إن العمل بالعلم وسيلة لترقية الحياة الإنسانية المادية منها والمعنوية، وهى القصد من التعلم والتعليم وقصد المجتمع أيضاً لأنه ينفق كل هذه الأموال في مجال التعليم لا لإيجاد وظائف للمتعلمين ولا لمجرد التعليم دون هدف .. هذا إلى أن فائدة العمل في ميدان التعليم أنه عامل لترسيخ المعلومات في الذهن لأنك إذا تعلمت بنية العمل فتهتم بالمعلومات وتكرِّرها خوفاً من أن يكون هناك نقص أو غموض في المعلومات فتؤدي إلى نتائج خاطئة في الحياة.
ولهذا كله يجب أن يضع المتعلم في ذهنه اعتباراً من بداية التعلم العمل بما يتعلم إذا أراد من تعلمه أن ينفع نفسه وأن ينفع أمته وأن يخدم الإنسانية، وإذا أراد أن ينقذ نفسه من مسؤولية العمل بالعلم عند الله وأخيرا إذا أراد أن ينال مكافأة وثوابا من الله من تعلمه وعلمه العلمي.
وإلا فليرح نفسه من عناء التعلم ولا يضيع شبابه فيه وينصرف إلى عمل آخر وليرح أهله والدولة من تكاليف النفقة على تعليمه….. لأن ما ينفق على تعليمه إنما هو من الأموال العامة أو من أموال الأمَّة عامة.
سادسا: بيان طريقة دراسة الحقائق
من أهم مميزات التوجيه التعليمي في النظرية التربويَّة الإسلاميَّة أنه يوجه المتعلِّم عند دراسة حقيقة ما، إلى أن يَدرسها من عدَّة نواحٍ، من حيث ماهية الحقيقة، ومن حيث منافعها، ثم من حيث دلالتها، والدلالة قد تكون صناعية وقد تكون إبداعية أو جمالية.
وتوجيه الإسلام التعلم على هذا النحو له مغزى تربوي وهو أنه لا ينبغي أن يكتفي الدارس بمعرفة ماهية الحقيقة التي يدرسها بل عليه أن يقلب فيها نظراته ويدرسها من حيث مدى ما يمكن الانتفاع بها في المجالات المختلفة ومدى ما فيها من دلالات تدل على الإيجاد والصنعة، وما فيها من ابتكار إبداعي وجمالي ليغوص بتلك النظرات والدراسات من الظواهر إلى البواطن، فإذا استطاع الدارس أن ينتقل إلى عالم الأسرار يستطيع عندئذ أن يبتكر ويخترع في أي ميدان من ميادين العلم والفن والأدب الذي تخصص فيه.
والدراسة على هذا النحو لها مغزى آخر وهو أنَّ التعليم لس الغرض منه مجرد حشو الأذهان، وإنما هو إشباع حاجة العقل والقلب والعاطفة، فإذا وصل المتعلم إلى كل هذه الحقائق تنفتح بصيرته وينبض قلبه بالشفافية وترق مشاعره الحساسة وتنتعش حيويته فيشعر بالبهجة وجمال الحياة، ومن ثم يجد نفسه في عالم جديد كأن لم يكن فيه من قبل، يجد فيه كل شيء يرغب فيه ويدرك عندئذ معنى قوله تعالى: [اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ] {إبراهيم:32-34}.
واذا وصل الدارس إلى هذا المستوى من الإدراك والوعي للعالم المحيط به ووعى ما وراءه من أسرار عندئذ يؤمن إيماناً يقيناً أن لهذا العالم خالقاً يدبره فلا يمكن أن يوجد بغير الخلق ولا يمكن أيضاً أن يدوم أمره على هذا النحو بغير تدبيره، وكلما تعمق في العلم وازدادت بصيرته في أسرار العالم وتأمله فيها كلما ازداد خضوعه لله، صدق الله العظيم إذ قال: [إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] {فاطر:28} [وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القَوْمِ الصَّالِحِينَ] {المائدة:83-84}.
هذا هو العالم الذي يريد الإسلام أن تكونه التربية ولا يريد الإسلام ذلك العالم الذي يبتكر ليبيد الناس، ولا ذلك العالم الذي يبتكر طرقاً لامتصاص أموال الناس ويخترع طرقاً شيطانية لإيقاع الناس، أو لإزاحة مُوظف عن وظيفته ليتولى وظيفته، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: (ألا إنَّ شر الشر شرار العلماء وإن خير الخير خيار العلماء) [المرجع السابق 1/89].
ولنستعرض الآن بعض الآيات القرآنية التي تشير إلى تلك الحقائق من الجوانب المختلفة فعندما أراد الله تعالى أن يبين للإنسان حقيقة من حقائق علم الجيولوجية الذي يقول أنَّ الأرض كانت ميتة لم تكن عليها آية ظاهرة حيوية فكانت صحراء ملساء عبارة عن تراب فقط في فترة من الفترات. ثم ظهرت فيها النباتات والحيوانات والإنسان إنه يثير دهشة العلماء لأنهم يعلمون أن الإنسان لم يخلق هذه الحياة والنباتات والحيوانات المختلفة فقال تعالى مبيناً قدرته العجيبة والغاية من خلق هذه الأشياء: [وَآَيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ] {يس:33-36} ، [أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ] {الواقعة:63-64} ، ليسأل الإنسان نفسه من الذي زرع أول مرة إن كان لابد من زارع.
ولما أراد أن يُعبِّر عن نظام دقيق يقوم على أساسه نظام الأرض والسماء وتدور بها حركة الأفلاك بتعاقب الليل والنهار وما يدل ذلك على الصنعة قال تعالى: [وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرْجُونِ القَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] {يس:37-40}. (كل له قانتون) أي: تابعون لنظامه، [بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] {البقرة:117}.
ولما أراد أن يُعبِّر عن حقيقة فلكية وهي أن الأرض كوكب في الفضاء ليست مستقرة على شيء وأن النظام الإلهي الدقيق هو الذي يجعلها لا تسقط وأنه لا توجد هناك قوة تستطيع أن توقفها إذا أراد الله تعالى إسقاطها قال الله سبحانه: [إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا] {فاطر:41}. (أي يمسكها من أن تزولا، ولئن زالتا لا يستطيع أحد إمساكها).
ولما أراد تعالى أن يُعبِّر عن حقيقة من حقائق علم الأجنة وهي حقيقة خلق الإنسان أو كيفية تكون الجنين مشيراً إلى ما يدل على تكونه وتصنعه صنعاً عجيباً فقال تعالى: [إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ] {الإنسان:2}.
[ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ] {المؤمنون:14}.
[نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ] {الواقعة:57-59}.
يقول الأطباء: إن الجنين يتكون أول مرة من الخلية الحية أو الحيوان المنوي الآتي من الذكر ثم يلتحق هذا الحيوان بالبويضة الآتية من الأنثى والخلية التي تتكون من اجتماع الخليتين الذكرية والأنثوية فيها 48 كروموزوماً نصفها من الذكر والنصف الآخر من الأنثى وكل كروموزوم يتكون من جينات عديدة وهذه الكروموزومات والجينات الأمشاج هي التي تحدد خصائص الطفل الجسمية والعقلية والنفسية الوراثية الآتية من الأبوين ثم تنقسم هذه الكروموزومات إلى قسمين وعن طريق النمو تصبح 96 ثم عن طريق هذا الانقسام المستمر يكبر حجم النطفة وبعد أن تصبح في أطراف الرحم تتعلق في جدار الرحم، ومن هنا تنتقل من طور النطفة إلى طور العلقة، ومن ثم سميت علقة اشتقاقاً من العلوق، من معناه التعلق لا من معناه الدم الجامد كما قال المفسرون؛ لأنَّ النطفة كما يقول الأطباء لا تتحول إلى دم جامد، كما فسَّر المفسرون من حقنا أن نقول إنَّ التفسير ينبغي أن يكون مُتفقاً مع اللغة والعلم.
وبعد طور العلقة يأتي طور المضغة وهكذا تتسلسل الأطوار إلى أن يتكون طفل في أحسن صورة، وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الأطوار لأنها مراحل بارزة وعجيبة، إذ كيف يتكون الحيوان المنوي في جهاز الرجل وكيف تتكون البويضة في جهاز المرأة ثم عملية التلقيح، وتكون خلية واحدة من خليتين فيها أمشاج من خصائص الأب والأم، وتفاعل الأمشاج أو الكروموزومات والجينات يؤدي إلى تكوّن طفل يتميز عن شقيقه، مع أن المصنع واحد والمادة واحدة، نحن نعلم أنَّ كل مصنع ينتج إنتاجاً واحداً من الصناعة طالما المادة واحدة لكن مصنع الله تعالى هنا غريب جداً جداً يحير العقل. ثم يسأل الله سبحانه الإنسان بعد أن يطلعه على هذه الحقائق وما تدل عليه هل الإنسان نفسه هو الذي صع نفسه كلا ثم كلا!
إذن هنا يضطر الإنسان إلى أن يبحث عن صانع وهل يجد غير الله تعالى لذلك صانعاً ومحكماً كما أخبر به عن نفسه: [صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ] {النمل:88}.
أما دلالة الحقيقة الجمالية فلها قيمة من الناحية العاطفية الجمالية، والإحساس الجمالي موجود في فطرة الإنسان وهو حاجة من حاجاته الأساسية وقد وضع بعض علماء النفس حاجة النفس إلى الجمال في الدرجة السابعة من الحاجات الأساسية للطبيعة (57).
ثم إنَّ الجمال له قيمة فتزيد قيمة الشيء عندما يقدَّر ما له من جمال الصنع والإبداع. فقد يكون هناك شيء مصنوع ليس فيه جمال الصنع وممكن أن يقضي الحاجة لكنا نرجح عليه صناعة أخرى أكثر جمالاً وندفع ثمناً زائداً لذلك الجمال. فلو كانت المسألة مسألة مجرد قضاء الحاجة لما دفعنا ثمناً زائداً.
ولقد قدَّر الله تعالى للإنسان هذه العاطفة، فزاد في خلقه الجمال لإشباع تلك العاطفة وليزيد تقديرنا لما في خلق الله تعالى من دلالة الصناعة والإبداع، وليزيد إحساسنا بنعم الله سبحانه على الإنسان، لأنه كلما زاد إحساس الإنسان بنعم الله تعالى عليه دفعه إلى شكره له.
ولهذا فقد أشار الله تعالى في كثر من الآيات عندما عبَّر فيها عن حقائق المخلوقات التي خلقها وأبدع ما خلق وما صنع وأتقن صنعه وأبدع خلق السماوات والأرض وزين السماء وأنبت من كل زوج بهيج وما إلى ذلك من الأمور التي عالجناها في بحث آخر بعنوان: التربية الإبداعية والجمالية.
المصدر: مجلة المسلم المعاصر رجب، شعبان ورمضان 1402 – العدد 31
[وللمقالة تتمة في الجزء التالي]
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)