مقالاتمقالات مختارة

جوانب التربية العقلية والعلمية في الإسلام (2)

جوانب التربية العقلية والعلمية في الإسلام -2 –

بقلم د. مقداد يالجن

بعد هذه الجولة في مفهوم التربية العقلية يجدر بنا بيان أهمِّ جوانب التربية العقلية الإسلامية. ويمكن أن نبرز أهم جوانبها في النقط الآتية:

جوانب التربية العقلية الإسلامية

أولا: تكوين عقلية علمية مؤمنة:

فكما أنَّ كل فلسفة أو أيديولوجية اليوم تحاول – عن طريق التربية – تكوين عقلية تفكر بمنطقها وتنظر بمنظارها إلى الكون والحياة وتقوم الحياة بمعاييرها. كذلك يجب علينا اليوم أن ننشئ أفراد المجتمع ونكونهم عن طريق التربية بحيث يفكرون بالعقلية الإسلامية وينظرون بمنظار الإسلام إلى الكون والحياة ويقوِّمون الحياة بمعاييره.

فإن التربية تكاد تكون فناً أكثر من أن تكون علماً بحتاً تهتم أكثر ما تهتم بتشكيل الأفراد وصياغتهم على النحو المراد، فإن الفلسفة الماديَّة الملحدة والشيوعية اليوم تستطيع أن تشكِّل أفراد المجتمع حسبما تريد وتشكل عقليتهم بوضع منظار فلسفتها في أعينهم بحيث لا يستطيعون رؤية الحقائق خارج نطاق منظارها وتعتبر كل شيء لا يدخل في إطار ذلك المنظار لا جود له، وتجعلهم يتحمسون لفلسفتها ويدافعون عنها ويضحون في سبيلها المال والنفس وكل غالٍ إذا اقتضى الأمر.

إننا كذلك يجب أن نشكل أبناءنا ونكون عقليتهم لتصبح عقليَّة علمية إسلامية بحيث ينظرون إلى الكون وما وراه، إلى الحياة وما بعد الحياة بالمنظار الإسلامي؛ فيستطيعون رؤية الحقائق العلويَّة المعنوية والسفليَّة الماديَّة.

وكلما ازدادوا نمواً من الناحية العقلية والعلمية يستطيعون رؤية الحقائق أكثر ورؤية أدلَّة الله تعالى على الكون أكثر، ثم يزدادون إيماناً ورسوخاً في العقيدة وتحمساً لها ودفاعاً عنها وتضحية في سبيلها، عندئذ تتحقَّق مظاهر أهل العلم في سلوكهم وفي قدرتهم على رؤية أدلَّة الله في الكون أكثر وصدق الله العظيم إذ قال:[وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ] {الرُّوم:22}.

[وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ] {العنكبوت:43} أولئك العلماء الذين ينظرون إلى مخلوقات الله تعالى بالمنظار الرباني وبنور الله سبحانه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) [تحفة الاحوذي بشرح جامع الترمذي 8/555 أبواب تفسير القرآن. وأخرجه البخاري في التاريخ وابن جرير والحكيم الترمذي مرفوعا: المكتبة السلفية بالمدينة 1967م]، وإلا فلماذا لا يرى تلك الآيات أولئك العلماء الملحدون؛ لا يرونها لأنهم لا ينظرون بذلك المنظار الربَّاني ولا بذلك الشعاع الإلهي، وإنما ينظرون بالمنظار المادي الأسود.

لهذا قال الله تعالى: [إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ] {فاطر:28} ولعدم تكوين هذه العقلية العلميَّة المؤمنة لدى المتعلمين ورجال العلم نراهم لا يزدادون إيماناً بالله تعالى وخشوعاً له كلما ازدادوا علماً، بل نرى كثيراً منهم يقلون إيماناً وتمسكاً بالدين وخشوعاً من الله سبحانه، ومنهم من يفقد إيمانه لأنَّه تعلَّم في تلك البلاد الأجنبية التي يوضع فيها على أعين المتعلمين ذلك المنظار المادي الأسود، أو منظار الكفر الذي يجعل الناس لا يَرون تلك الأدلة الإلهية في السماوات والأرض، ولا في نفسه ولا في أقرب الأشياء إليه.

ثانياً: تكوين بصيرة

فلما أنزل الله تعالى الكتاب بالحق [وَبِالحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالحَقِّ نَزَلَ] {الإسراء:105} ورسم طريقاً مُستقيماً للناس دعا المعلِّمين والدعاة إلى تبصير الناس ذلك الطريق وتبيان الحقائق المحيطة به وكان الرسول صلى الله عليه وسلم خير قدوة لهم بذلك؛ حيث قال تعالى مخاطباً إياه: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي]{يوسف:108}، وقال تعالى: [وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ] {الصَّفات:175} .

وقد جاء الإسلام بـ [بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا] {الأنعام:104} قال الإمام الفخر الرازي في تفسير الآية (والبصائر جمع بصيرة وكما أنَّ البصر أم الإدراك التامِّ الكامل الحاصل بالعين التي في الرأس، فالبصيرة اسم للإدراك الأم الحاصل في القلب قال تعالى: [بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] {القيامة:14} (أي له من نفسه معرفة كاملة)، وأراد بقوله: [بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ] الآيات المتقدمة وهي في نفسها ليست بصائر إلا أنها لقوتها وجلالتها توجب البصائر لمن عرفها وقف على حقائقها.

فلما كانت هذه الآيات أسباباً لحصول البصائر سميت هذه الآيات نفسها بالبصائر.

والمقصود من هذه الآية دعوة إلى الدين الحق وتبليغ الدلالة والبينات فيها. والمراد بالأبصار هنا العلم، ومن العمى الجهل. ونظيره في قوله تعالى: [فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] {الحج:46}، وقال تعالى [هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] {الأعراف:203}.

وإذا كانت البصيرة – حسب ما قال الفخر الرازي اسم للإدراك التام أو المعرفة الكاملة الحاصلة في القلب فإنَّ على هذه التربية أن تتناول بالرعاية والتنمية مصدر هذا الإدراك كما تتناول العقل بالتربية.

والمعرفة القلبية لا تقل أهمية عن المعرفة العقليَّة بل قد تكون الرؤية القلبيَّة أكثر وضوحاً من الرؤية العقليَّة ولهذا عبَّر الله تعالى عن الرؤية القلبية بالبصر.

وكلما كان القلب طاهراً خالياً من الرذائل والذنوب كان أكثر انعكاساً عليه، لكنه إذا أهمل وتصدأ وران عليه ما كان يكسبه الإنسان من السيئات فإنه يصبح في حالة لا تعكس الحقائق عليه ولهذا يشبهه بعض الدارسين بالمرآة الصافية في الأصل.

ووظيفة القلب أساساً: هي معرفة الهدى والضلالة، والحرام والخير والشر، ويشير إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفاء فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربداً – ممزوجاً بياضة بسواده – كالكوز مجخيا –منكوساً_ لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) [التفسير الكبير 13/133 -134. الفخر الرازي المطبعة المصرية القاهرة 1933م.].

وهذه الحالة الآخرة هي عمى القلب ومما يؤكد ما نقرره هنا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدد تفسيره قوله تعالى: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ]{الحجر:75} – حيث قال صلى الله عليه وسلم (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ الآية السابقة [التاج 5/309 كتاب الفن].

وروي عنه أنَّه صلى الله عليه وسلم قال (إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم) [تحفة الاحوذي بشرح جامع الترمذي 8/555 للحافظ أبي العلي محمد عبد الرحمن المبار كفوري.]. قال المناوي في شرح الحديث (اتقوا فراسة المؤمن، أي: اطلاعه على ما في الضمائر بسواطع أنوار أشرقت على قلبه فتجلَّت له بها الحقائق، فإنَّه يَنظر بنور الله)؛ أي: يبصر بعين قلبه المشرق بنور الله تعالى.

وأصل الفراسة أنَّ بصر الروح مُتصل ببصر العقل في عين الإنسان فالعين جارحة والبصر من الروح وإدراك الأشياء من بينهما فإذا تفرَّغ العقل والروح من إشغال النفس أبصرت الروح وأدرك العقل ما أبصرت الروح.

ولما عجز العامة عن هذا شغلت أرواحهم بالنفوس واشتباك الشهوات فشغل بصر الروح عن إدراك الأشياء الباطنية، ومن أكبَّ على شهواته وتشاغل من العبودية حتى خلط على نفسه الأمور تراكمت عليه الظلمات كيف يبصر شيئاً غاب عنه. ومعنى المتوسمين في الآية السابقة قال ابن عباس: للناظرين. وقال مجاهد: للمتفرسين [أخرجه البخاري في التاريخ وابن جرير وابن أبي حاتم والحكيم الترمذي، والطبراني والرازي عن أنس مرفوعا بلفظ أن الله عبادا يعرفون أناس بالتوسم ” انظر شرح الحديث السابق تحفة الاحوذي بشرح جامع الترمذي للمبار كفوري 8/555 المكتبة السلفية بالمدينة 1967م.]

إذن فعلى هذه التربية أن تحافظ على تلك القلوب الطاهرة وإبعادها عن الفساد والفتن التي تجعلها مَرْضيَّة، كما تحافظ على سلامة الصحَّة وحمايتها من إصابتها من الجراثيم.

فالحماية والحفظ واجب تربوي إذ يجب علينا أيضاً حماية العقول من الأمراض والمسكرات التي تضرها أو تنقص من فعاليتها، ولهذا أيضاً حرَّم الإسلام الخمور وكل المسكرات واعتبرت الشريعة حفظ العقل أحد الضروريات الخمسة أو مقاصد الشريعة [الموافقات في أصول الاحكام للإمام الشاطبي /4 وما بعدها. مكتبة صبيح. القاهرة1].

وقد اعترف الأطباء وأقروا بأنَّ تناول المواد المخدِّرة أحد أسباب الأمراض العقليَّة. كذلك قد بيَّن المؤتمر العلمي الدولي المنعقد في بلجيكا عام 1928م أضرار الخمور والمخدرات على عقول المدمنين وذريتهم [العلاج النفسي. حامد عبد القادر ص 136 دار احياء الكتب العربية بالقاهرة.].

ثم لم يكتف الأطباء ببيان أضرار المخدرات على العقول بل بينوا أيضاً أضرار الأفكار والنيات السيئة على العقول؛ فقال أحدهم: (ولكي نكفل لذواتنا جهازاً عصبيا صحيحاً وجسماً معافي سليما يجب أن نروِّض عقولنا على الأفكار الصالحة البريئة من الآثام؛ لأنَّ الأفكار الشريرة الدنسة تضعف العقل وتفسده وتجرُّه إلى الجنون)[آثار الخمور في الحياة الاجتماعية ص 19 دكتور احمد غلوش. من مطبوعات جامعة الدول العربية .].

ومن هنا ندرك أهميَّة ما دعا إليه الإسلام من الاستقامة والتقوى ومن النيات والأفكار الصالحة.

وكما يجب تجنب المتربين من أسباب الأمراض العقليَّة، يجب أن نكوِّن عندهم أيضاً الوعي العلمي بأضرار تلك الأمور التي تؤدي إلى الأمراض العقليَّة وتعوق نمو العقل وتقدمه في الكشف عن الحقائق.

المصدر: مجلة المسلم المعاصر رجب، شعبان ورمضان 1402 – العدد 31

الحلقة الأولى هــــنا

وللمقالة تتمة في الجزء الثالث إن شاء الله.

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى