جهود صلاح الدين في إدارته حصار مدينة عكّا
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
عكا مدينة تاريخية من أقدم مدن فلسطين، تقع على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، أسسها الكنعانيون قديماً.
كانت عكا خاضعة لسيطرة المسلمين منذ عام 636م وتوالت عليها أحداث كثيرة على مرّ التاريخ، منها الحصار الكبير من قبل الجيوش الصليبية بقيادة ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد، ووقعت بأيدي الصليبيين إلى أن حررها القائد المسلم الأشرف بن قلاوون بعد أكثر من مئة عام.
كان صلاح الدين يراقب تطورات الموقف من مراكزه عند «شفرغم» ثمَّ عند «الخروبة» ، ثم «العياضية» ، وتلقَّى في نهاية جمادى الأولى/حزيران) إمدادات جديدة من الجزيرة ، وعندما نفَّذ عدة هجمات مضادَّة على الصليبيين؛ لجأ هؤلاء إلى مهاجمة عسكره ، ولكنهم فشلوا في تحقيق أيِّ هدف بعد أن ثبت المسلمون لهم ثبوتاً عظيماً ، وصبروا صبر الكرام. وكان الهدف من القتال الوقوف على قوَّة الخصم ، فقد أراد صلاح الدين أن يثبت لريتشارد قلب الأسد: أنَّ جيشه ما زال قوَّياً ، وأن بوسعه ملاقاته ، وأما ريتشارد قلب الأسد ، فإنه أراد من جانبه أن يتأكَّد ممَّا إذا كان بوسعه أن يفرض إرادته على صلاح الدين بقوة السلاح ، أو أن يفرض عليه المفاوضات بعد أن يُلحق بالمسلمين هزيمةً تجبرهم على الموافقة على شروطه مدركاً في الوقت نفسه: أنَّ الظروف العسكريَّة مهيأةٌ لتحقيق ذلك. (تاريخ الأيوبيين ص 184)
لم تفلح الهجمات المتعدِّدة التي شنَّها المسلمون ضدَّ الصَّليبيين المحاصرين لعكَّا ، لكن صمودهم في وجه الهجمات المضادَّة دفع ريتشارد قلب الأسد إلى طلب المفاوضات ، وأعلن عن رغبته في الاجتماع بالسُّلطان ، وكان يأمل بالتوصُّل إلى تسوية سلمية؛ غير أنَّ صلاح الدين أجاب بحذر ، فإنه ليس من الحكمة أن يجتمع ملكان متعاديان؛ حتى تنعقد بينهما هدنة ، ومع ذلك فإنَّه أعرب عن استعداده لأن يسمح لأخيه العادل أن يجتمع بالملك الإنكليزي، وتقرَّر وقف القتال مدَّة ثلاث أيام ، وتمَّ الاتفاق أن يُعقد الاجتماع في السَّهل؛ الذي يفصل المعسكرين الإسلامي والصَّليبي؛ غير أنَّه حدث أن خرَّ ملكا إنكلترا ، وفرنسا مريضين فجأة ، واشتدَّت العلة على ريتشارد قلب الأسد ، لكنَّ ذلك لم يؤثر على معنويات الصَّليبيين؛ الذين ازدادوا إصراراً ، وعتوَّاً.
1 ـ مفاوضات على تسليم عكَّا:والواقع: أنَّ الهجمات التي شنَّها صلاح الدين ضدَّ القوات الصليبية لم تفلح ، وكانت عكَّا قد ضعفت ضعفاً شديداً ، واشتدَّ الخناق بالمسلمين في داخلها ، وهدمت مجانيق الصليبيين جزءاً من سورها ، وتخلخل جزءٌ اخر ، وأنهك التعب والسهر أهل البلد لقلَّة عددهم ، وكثرة أعمالهم. وفي 7 جمادى الآخرة/2 تموز أرسلت الحامية رسالةً جاء فيها: إنَّا قد بلغ منا العجز إلى غايةٍ ما بعدها إلا التسليم ، ونحن في الغد، إن لم تعملوا معنا شيئاً نطلب الأمان ، ونسلِّم البلد، ونشتري مجرد رقابنا.
كان هذا الخبر من أعظم ما وقع على المسلمين؛ لأنَّ عكا كانت مخزناً كبيراً لسلاح السَّاحل، وبيت المقدس ، ودمشق، وحلب ، ومصر ، وفيها كبار أمراء صلاح الدين ، مثل سيف الدين علي بن أحمد الهكَّاري المعروف بالمشطوب ، وبهاء الدين قراقوش. ثم إنَّ الحامية اتَّخذت فعلاً قراراً بوقف القتال ، وذهب سيف الدِّين علي المشطوب بنفسه إلى المعسكر الصَّليبي لمقابلة الملك الفرنسي ، والاتفاق معه على شروط التسليم. وذكر: أنَّ المسلمين كانوا إذا أخذوا بلداً منهم ، وطلب من بذلك البلد على أنفسهم أعطوهم ، وعرض عليه تسليم البلد له بشرط أن يعطيهم الأمان على أنفسهم. إلا أنَّ ملك فرنسا ـ الذي كان بعيداً كلَّ البعد عن صفات الشَّهامة ، والمروءة؛ التي كان صلاح الدين يتحلَّى بها ـ امتنع عن إجابة طلبه ، وردَّ عليه رداً دلَّ على وحشيته؛ الأمر الذي أثار نخوة سيف الدين المشطوب ، فأغلظ له في القول ، وكان مما قال له: إنَّا لا نسلِّم البلد حتى نقتلَ بأجمعنا ، ولا يقتلُ واحدٌ منا حتى يقتلَ خمسين نفساً من كباركم. ثم انصرف عنه المشطوب ، ودخل عكا يستشير الناس للجهاد، وبذل أرواحهم في سبيل الله. (صلاح الدين والصليبيون ص 265)
وعلى الرَّغم من ذلك التعنت من ملك فرنسا ، فإنَّ الصليبيين كانوا بلا شك يحسبون للقوَّة الإسلاميَّة حساباً كبيراً بدليل ما ذكره ابن الأثير من أنَّ الصليبيين لم يكتفوا بالتفاوض مع قادة الحامية الإسلامية بعكَّا. بل أنهم اتَّجهوا كذلك إلى مفاوضة صلاح الدين نفسه ، حيث أرسلوا إليه في أمر التَّسليم ، فأجابهم إليه على أن يُطلقوا مَنْ بعكا من المسلمين ، ويُطلق هو مِنْ أسراهم بعدد مَنْ في البلد.
2 ـ صلاح الدين يحثُّ المسلمين بعكا على الصبر: ومهما يكن من أمرٍ فإنَّ صلاح الدين لما رأى ذلك التعنُّت من الصليبيين؛ أرسل إلى مَنْ بعكَّا من المسلمين يحثُّهم على الصَّبر ، ويأمرهم بأن يخرجوا من المدينة يداً واحدة بعد أن يحملوا على العدوِّ حملةَ رجلٍ واحدٍ ، ووعدهم بأن يتقدَّم هو إلى تلك الجهة التي يخرجون منها بعساكره، ويقاتل الصَّليبيين حتى يتمكَّنوا من الخروج إليه. إلا أنَّ تلك المحاولة لم يكتب لها النجاح بسبب سيطرة الصَّليبيين على البلد. وهنا أدرك مَنْ بداخل عكَّا من المسلمين: أنه لم يعد أمامهم سوى الجهاد ، والاستبسال في قتال الأعداء ، فكتبوا إلى صلاح الدين يذكرون له أنهم قد تبايعوا على الموت ، وأنهم قد عزموا على الاستمرار في القتال ، وأنهم لن يسلموا ما داموا أحياء.
وعلى الرَّغم من تلك التضحية الكبرى الكبيرة من أهل عكَّا ، وحبهم للاستشهاد في سبيل الله ، فإنه يبدو: أنَّ صلاح الدين ، وأمراءه الذين كانوا بالدَّاخل أمثال الأمير سيف الدين المشطوب ، وغيره ، كانوا حريصين كل الحرص على سلامة أرواح المسلمين ، ويدلُّنا على ذلك ما ذُكر من أنَّ سيف الدين المشطوب عندما رأى الموقف؛ خرج إلى الصليبيين للمرَّة الثانية ، وقرَّر معهم تسليم البلد مقابل خروج من به المسلمين بأموالهم ، وأنفسهم ، وأن يدفع لهم فدية قدرها مئتا ألف دينار ، وخمسمئة أسير ، فضلاً عن إعادة صليب الصَّلبوت ، ودفع مبلغ من المال إلى كونراد مونتفرات صاحب صور ، وهنا يذكر المؤرخ ابن شدَّاد: أن صلاح الدين عندما وصلته رسالة من أحد العوَّامين تذكر له تلك الشروط؛ أنكر ذلك إنكاراً شديداً. (النوادر السلطانية ص 170)
3 ـ غدر الصليبيين ونقضهم للعهود: قبل الصليبيُّون تلك الاتفاقية ، وحلفوا لسيف الدين المشطوب ، فسلم لهم البلد، ودخلوه سلماً، ولما دخل الصَّليبيون عكَّا؛ نقضوا عهودهم كعادتهم، وغدروا بمن فيه من المسلمين، واحتاطوا عليهم، وعلى أموالهم، وحبسوهم، وذلك في 17 جمادى الاخرة 587 هـ/يوليه 1191 م متظاهرين بأنَّهم فعلوا ذلك حتى يصل إليهم ما اتَّفقوا عليه من الفدية، والأسرى وهنا شرع صلاح الدين في جمع الأموال، واجتمع عنده مبلغٌ كبير من المال، واستشار أصحابه في تسليمه للصَّليبيين، فأشاروا عليه بأن يعود مرَّةً أخرى فيستحلف الصليبيين على إطلاق أصحابه، وأن يضمن الدَّاوية ذلك «لأنهم أهل تديُّن ، ووفاء إلا أنَّ الداوية امتنعوا عن ذلك، وقالوا «لا نحلف، ولا نضمن، لأننا نخاف غدر مَنْ عندنا»؟. عند ذلك علم صلاح الدين غدرهم ، فلم يجبهم إلى ذلك. كانت ألوية الصليبيين ترفرف في ذلك الوقت فوق أبراج عكَّا ، واستطاع الصَّليبيون دخول عكَّا بعد أن حاصروها قرابة عامين ، الأمر الذي أثار موجةً من الأسى والحزن عبَّر عنها المؤرخون المسلمون.
ويبدو أنَّ الصليبيين ماطلوا في تنفيذ الشق المتعلِّق بهم ، وكان صلاح الدين قد أرسل لهم القسط الأول من المال ، والرجال الأسرى ، ولمَّا طالبهم بتنفيذ البند الخاص بهم كاملاً؛ رفضوا عندها أدرك عزمهم على الغدر ، ورفض أن يسلِّمهم ما تبقَّى من المال ، والأسرى، ولمَّا رأى ريتشارد قلب الأسد توقف صلاح الدين عن بذل المال ، والأسرى، وصليب الصلبوت لهم لم يعاود الاتصال بصلاح الدين ، بل دفعه تهوُّره ، وحمقه إلى أن ساق أسرى المسلمين الذين بعكا، وكانوا زهاء ثلاثة الاف مسلم إلى تلك العياضية ، وأوثقهم بالحبال ، ثم حمل الصليبيون عليهم حملةً واحدة ، وقتلوهم عن اخرهم وذلك في 27 رجب 587 هـ/20 أغسطس 1191 م.
ولا شكَّ: أن ذلك التصرف الوحشي الذي اتخذه ريتشارد مع أسرى المسلمين في عكا لم تكن له نتيجة سوى إثارة النَّخوة الإسلامية في صفوف المسلمين؛ الذين استشعروا ذلك الخطر الصليبي، فهبُّوا من كافة الأقطار الإسلامية للجهاد ضدَّ الصليبيين ، وبالفعل فإنَّ الجيوش الإسلامية قد منعت الجيوش الصَّليبية من تحقيق أيِّ انتصار عقب دخولهم عكا ، وذلك لتفاني الجيوش الإسلامية في ميادين القتال لشعورها بزيادة الخطر الصَّليبي ، فضلاً عما أعقب دخول الصَّليبيين عكا من خلافٍ ، وشقاق بين قادتهم أدَّى إلى اختلافهم كلمتهم ، وعجزهم عن تحقيق انتصارٍ اخر غير دخولهم عكا ، ذلك الانتصار الذي لا يقاس في حدِّ ذاته بما لحق بالصَّليبيين من خسائر. (صلاح الدين والصليبيون ص 268)
وشتان بين السلوك الهمجي الذي اتَّبعه ريتشارد مع أسرى المسلمين بعكَّا ، وبين ذلك السُّلوك الإنساني الذي كان صلاح الدين قد اتَّبعه مع الصليبيين في مواقف كثيرة ، منها ما فعله بأسراهم عقب انتصاره في حطِّين ، ثم عقب استيلائه على بيت المقدس؛ إذ حرص دائماً على السَّماح لأهل المدن التي استولى عليها من الصَّليبيين بمغادرتها سالمين.
ومن المواقف الإنسانية الإسلامية الصَّلاحية التي ظهرت من صلاح الدين وهو في حصار عكَّار:
4 ـ المرأة النصرانية التي تبحث عن ابنها الرَّضيع: كان للمسلمين لصوصٌ يدخلون إلى خيام العدوِّ ، فيسرقون منهم حتَّى الرِّجال ، ويخرجون، فأخذوا ذات ليلة طفلاً رضيعاً له ثلاثة أشهر ، فلمَّا فقدته أُمُّه باتت مستغيثةً بالويل ، والثبور في طول تلك الليلة ، حتى وصل خبرها إلى ملوكهم ، فقالوا لها: إنَّه رحيم القلب ، وقد أَذِنَّا لك في الخروج إليه، فاخرجي ، واطلبيه منه ، فإنه يردُّ عليك. فخرجت تستغيث لليزك الإسلامي ، وأخبرتهم بواقعتها، فأطلقوها ، وأنفذوها إلى السُّلطان ، فأتته ، وهو راكب على تَلِّ الخرُّوبة ، وكان القاضي ابن شدَّاد في خدمته ، وهو الذي روى القصَّة ـ وكان في خدمته خلق عظيم ، فبكت بكاءً شديداً ، ومرَّغت وجهها في التُّراب ، فسأل عن قِصَّتها ، فأخبروه، فَرَقَّ لها، ودَمِعت عينه ، وأمر بإحضار الرَّضيع ، فمضوا ، فوجدوه قد بيع في السُّوق ، فأمر بدفع ثمنه إلى المُشْتري ، وأخذه منه ، ولم يزل واقفاً ـ رحمه الله ـ حتى أُحضر الطِّفل ، وسُلِّم إليها ، فأخذته، وبكت بكاءً شديداً ، وضمَّته إلى صدرها ، والناس ينظرون إليها ، ويبكون ، وأنا واقف في جملتهم ، فأرضعته ساعةً ، ثم أمر بها ، فَحُمِلتْ على فرسٍ ، وألحقت بمعسكرهم مع طفلها. فانظر إلى هذَه الرَّحمة الشَّاملة لجنس الإنسان.
5 ـ معاملته لملك انكلترا: تكرَّرت الرَّسائل من الفرنج إلى السُّلطان شغلاً للوقت بما لا طائل تحته ، منها: أنَّ ملك الانجليز طلب الاجتماع به ، ثم فَتَر بَعْدُ أياماً ، ثم جاء رسوله يطلب الاستئذان في إهداء جوارح جاءت من البحر ، ويذكر: أنَّها قد ضَعُفَت، وتغيَّرت ، وطلب أن يُحمل لها دجاجٌ ، وطيرٌ تأكله لتقوى ، ثم تُهدى ، ففهم: أنَّه محتاجٌ إلى ذلك لنفسه؛ لأنَّه حديث عهد بمرضٍ ، ثمّ أنفذ أسيراً مغربياً عنده هديةً إلى السلطان ، فأطلقه السُّلطان صلاح الدين. ثم أرسل في طلب فاكهةٍ ، وثلج، فأرسل إليه ذلك.
ملاحظة: استفاد المقال مادته من كتاب: “صلاح الدين الأيوبي..”، للدكتور علي الصلابي، واعتمد في كثير معلوماته على كتاب: النوادر السلطانية، لبهاد الدين بن شداد.
_____________________________________________________________
المراجع:
- صلاح الدين الأيوبي، د. علي محمد الصلابي،.
- النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية بهاء الدين بن شدَّاد ، تحقيق أحمد إيبيش ، دار الأوائل سوريا ، الطبعة الأولى 2003 م.
- تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام والجزيرة ، محمد سهيل طقوش ، دار النفائس ، الطبعة الأولى ، لبنان 1400 هـ 1999 م.