مقالاتمقالات مختارة

جهود الإمام عبد القادر الجيلاني وتلامذتهِ في الإصلاح السُّني وبناء المدارس (5)

جهود الإمام عبد القادر الجيلاني وتلامذتهِ في الإصلاح السُّني وبناء المدارس (5)

بقلم أيمن يزبك

المبحث الخامس

المدرسة القادرية وفروعها في البلدان

 

لقد كانت المدارس الدينية هي المراكز التي انتشر منها منهج الإمام التربوي والإصلاحي، وكانت هذه المدارس محطاتً متخصصة في صناعة الوعي وتربية الجيل على الإيمان والعلم والاستعداد لخدمة الأمة… وسأعرض الآن لبناء المدرسة القادرية الأولى وأهم فروعها في المدن والأرياف.

1- المدرسة القادريَّة الأولى:

منذ أن جلس الشيخ عبد القادر الجيلاني للتدريس وارثًا شيخه أبا سعيد المخرمي في مدرسته صار المكان يضيق بالمجتمعين من شدة الازدحام وكثرة إقبال الناس على مجلس الشيخ الجيلاني، حتى خرج بهم إلى سور بغداد الجنوبي… وهناك أقام الإمام مدرسته الجديدة التي عرفت باسم (المدرسة القادرية) وأقبلت عليها جموع الناس غنيهم وفقيرهم وكبيرهم وصغيرهم كلٌّ يبذل ما استطاع لبناء المدرسة حبّا وكرامة وتقديرًا وإجلالًا للإمام ومنهجه… فهذا الغني يتصدق بماله ويستأجر العمال، وهذا الفقير المعدوم الذي لا يجد قوت يومه يبذل نفسه وجهده، حتى المرأة كانت تتصدق بمهرها لزوجها مقابل أن يعمل في بناء المدرسة، في مشهد من التكافل والتعاون والتآزر والتلاحم والتكاتف عَكَسَ روح العمل الجماعي الذي أثمر عن إنشاء وتشييد صرح علمي غدا مع الزمن مركز إشعاع دعوي رفد الأمة الإسلامية بالكثير من الدعاة اللذين كان لهم دور كبير في بناء المدارس وتوحيد الأمة، ورفد مشروع الزنكيين والأيوبيين لحماية الدين ومواجهة كلٍّ من الخطر الصليبي والرافضي على السواء… لذلك عمل الشيخ الجيلاني بعد إتمام بناء المدرسة عام (528هـ/1133م) على استقبال كل من يقصد هذه المدرسة من طلبة العلم القادمين من كل أنحاء العالم الإسلامي، وتوفير كل ما يلزم طالب العلم من مسكن ومأكل وملبس ومستلزمات الدراسة ومرتب يعين به أهله، حتى كبار السن كانت لهم مجالس تعليم خاصة بهم… كل ذلك من أجل أن يصل العلم الشرعي للكبار والصغار فيُقضى على الأميَّة،ويتبدَّد الجهل، فتستنير قلوب الناس بنور العلم والمعرفة ويعرف المرء ما هو أصل دينه وما ليس من دينه.

وصار الشيخ عبد القادر يعد الكوادر ويهيِّئُها للعمل الدعوي وفق منهج مؤصّل واضح حتى يوصلوا هذا المنهج إلى مناطقهم، وكان اهتمام الجيلاني يتركز على الأرياف أكثر من المدن التي تكثر فيها المدارس ومراكز الدعوة، وأكثر أهل العلم يقطنون فيها بخلاف الأرياف التي تكون مراكز التعليم فيها أقل… ومن أجل هذا كان الطالب يُعَدُّ إعدادًا صحيحًا منضبطًا ثم يُرسل إلى منطقته كي ينشئ فيها فرعًا للمدرسة القادرية ومنهجها المؤصل.

2- المدرسة العدويَّة: 

أسسها عدي بن مسافر، وهو ابن إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مَرْوَانَ الْهَكَّارِيُّ، مؤسس الطريقة العدوية أصله من بعلبك غرب دمشق من قرية فيها تسمى بيت نار، وقد اختلف المؤرخون في عام مولده ولكنهم اتفقوا على تاريخ وفاته 557هـ وهو المهم (1)، وحظي بألقاب كثيرة عند العلماء ومنها قطب المشايخ وبركة الوقت وقدوة العلماء (2).

ومن بعلبك ارتحل الشيخ عدي إلى بغداد، وفيها حضر مجالس شيخه حماد الدبّاسي الحنبلي والشيخ عقيل المنبجي (3)، كما التقى بالشيخ عبد القادر الجيلاني والشيخ أبي الوفاء الحلواني والشيخ أبي نجيب السهروردي (4)، حدث عنه الحافظ عبد القادر الرهاوي الذي صاحب عدي بن مسافر زمنًا طويلًا فوصف لنا حاله وأحواله حيث يقول:

(ساح سِنين كثيرة، وصحِب المشايخ، وجاهد أنواعًا من المجاهدات، ثُمَّ إنّه سكن بعض جبال المَوْصِل فِي موضع ليس به أنيس، ثُمَّ آنسَ اللَّه تلك المواضع به وعمّرها ببركاته حَتَّى صار لا يخاف أحدٌ بها بعد قطْع السّبيل، وارتدع جماعة من مفسدي الأكراد ببركاته، وعمّره اللَّه حَتَّى انتفع به خلْق وانتشر ذِكره، وكان معلّمًا للخير ناصحًا، متشرّعًا، شديدًا فِي أمر اللَّه، لا تأخذه فِي اللَّه لومةُ لائم، عاش قريبًا من ثمانين سنة… ورأيته إذا أقبل إلى القرية يتلقّاه أهلها من قبل أن يسمعوا كلامه تائبين، رجالهم ونساؤهم إلا من شاء الله منهم، ولقد أتينا معه على دَيْرٍ فِيهِ رُهْبان فتلقّاه منهم راهبان، فَلَمّا وصلا إلى الشَّيْخ كشفا رأسيهما وقَبّلا رِجْلَيه وقالا: ادْعُ لنا فما نَحْنُ إلا فِي بركاتك وأخرجا طبقًا فِيهِ خُبْزٌ وعَسَل فأكل الجماعة) (5).

بهذه الصفات والأحوال التي عُرفت عن الشيخ عدي أقام مدرسة سلوكية تعنى بتزكية القلوب وتهذيب النفوس، ورُبِّيت فيها أجيال عدة من أبناء الكرد وغيرهم من أبناء المناطق المجاورة، وقد عرفت هذه المدرسة بعد ذلك بالمدرسة العدوية نسبة لمؤسسها حيث تخرج منها أعداد جمة من الأكراد الذين عملوا في خدمة الدولتين الزنكية والأيوبية، ومن أعلام هذه المدرسة أسرة صلاح الدين الذي طال انتظار القدس له في حينها، وما زالت القدس تنتظر في زماننا مثله… وكان عدي بن مسافر يحرص على تعليم أتباعه نهج التصوف المبني على صفاء النفس واصطفائها والعقيدة المبنية على الكتاب والسنة والتي تلقاها عن شيخه عبد القادر الجيلاني وفي مدرسته القادرية، لذا وضع لأتباعه كتابين هما (عقيدة أهل السنة والجماعة) وكتاب (الوصاية) كمنهج تعليمي تربوي في مدرسته… وبعد وفاة الشيخ بزمن توزع أتباعه في الأمصار والتحق قسم كبير منهم بجيوش الأيوبيين…

3- المدرسة القرشية:

وهي مدرسة عثمان بن مرزوق القرشي الحنبلي الفقيه الزاهد، وصفه الشعراني صاحب الطبقات بقوله: (من أكابر مشايخ مصر المشهورين، وصدور العارفين، وأعيان العلماء المحققين صاحب الكرامات الظاهرة والأحوال الفاخرة والأفعال الخارقة والأنفاس الصادقة، وهو أحد العلماء المصنفين والفضلاء المفتين أفتى بمصر على مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه، ودرس وناظر وأملى وخرق الله تعالى له العوائد وقلب له الأعيان).

والإمام القرشي هو أحد أصحاب الشيخ عبد القادر الجيلاني، وكان قد اجتمع به في بغداد في جملة من جمعهم الشيخ الجيلاني للتباحث والتشاور في أمر إصلاح المجتمع وبثِّ روح السنة في نفوس الناس (6)، فكان الشيخ عثمان قد أخذ على عاتقه إحياء النشاط السني في مصر، – وكانت مصر يومئذٍ تحت حكم العبيديين – ولم يكن الشيخ عثمان أول السابقين في هذا المجال بل قد مهد له ولغيره الفقيه أبو بكر الطرطوشي ابن نظاميَّة بغداد، والذي أوقد شعلة المذهب السني في مصر أوائل القرن السادس الهجري والحادي عشر الميلادي، وجاءت جهود عثمان بن مرزوق القرشي متممة لجهود سابقيه فعقد مجالس الوعظ والفقه والتفسير وكانت مجالسه تزدحم بالمستمعين وطلاب العلم، وراح يلقنهم معاني التربية الروحية والسلوكية والفكرية… حتى استخلص لنفسه ثلَّة من طلابه أعتمد عليهم في نشر أصول السنة والوعي الديني، ومنهم ابن القسطلاني وأبو الطاهر وابن الصابوني وأبو عبد الله القرطبي، كما كان لابن مرزوق دورٌ كبيرٌ في تثبيت حكم نور الدين زنكي في مصر من خلال حشد التأييد الشعبي له عند مجيء أسد الدين شيركوه (7)… لكن لم يقدر لهذا الشيخ الفقيه الواعظ أن يشهد سقوط الدولة العبيدية التي أمضى في أراضيها نصف عمره وهو ينافح عن أصول السنة في وسطٍ كانت تخرج منه دعوة التشيع ودعاته… وقد توفي ابن مرزوق عام564هـ ولم يترك مكانه شاغرًا بل أعدّ لمدرسة الإصلاح السني أساتذة يقودونها، ولتبقى مستمرة على يد تلميذه الفقيه الواعظ زين الدين علي بن نجا.

4- المدرسة النجائية:

وهي مدرسة الفقيه الواعظ زين الدين علي بن إبراهيم بن نجا بن الغنائم الدمشقي الفقيه الحنبلي، ولد في دمشق عام 508هـ وتعلم على خاله عبد الوهاب ابن الشيخ أبي الفرج عبد الواحد بن محمد الحنبلي، وعنه أخذ فقه الحنابلة، كما أخذ فقه المالكية عن الشيخ علي بن أحمد بن قبيس المالكي.

وعندما دخل نور الدين زنكي دمشق اتصل بعلمائها وكان منهم الشيخ ابن نجا الذي اختاره نور الدين ليكون سفيره لدى الخليفة العباسي في بغداد عام 564هـ/1168م، وكان له دور كبير في بناء العلاقات الدبلوماسية بين الخلافة العباسية والدولة الزنكية.

وفي بغداد اجتمع ابن نجا بالشيخ الجيلاني صاحب المدرسة القادرية والمربي الأول لرجال الدولة الزنكية، وطلب الشيخ الجيلاني من ابن نجا أن يتوجه إلى مصر ويقابل الشيخ عثمان بن مرزوق القرشي ويعمل معه لتهيئة الأجواء لقدوم جيش نور الدين زنكي، وهذا ما حدث بالفعل فقد التقى ابن نجا بالشيخ عثمان وبدأ معه التخطيط الدقيق لهذه المهمة إلا أن أيامه مع ابن مرزوق لم تكن طويلة حيث وافت المنية ابن مرزوق القرشي ولم يقدر له أن يشاهد أركان الدولة الفاطمية وهي تتهاوى على أيدي صلاح الدين الأيوبي ورجاله كما شاهدها ابن نجا…

لم تنتهِ مهمة الشيخ ابن نجا بتهيئة الأجواء لقدوم الفاتحين بل كان له الدور الأكبر والأهم بعد سقوط الفاطميين عام 567هـ/1171م ليبدأ مرحلة التأسيس السياسي للإسلام السني المتمثل بالدولة الزنكية ثم الأيوبية بعدها، واستطاع أن يكتشف محاولات فلول العبيديين للانقلاب على صلاح الدين وإعادة السلطة العبيدية، ومن ذلك كشفه مؤامرة عمارة اليماني عام 569هـ/1173م حين كان يخطّط مع بعض أصحابه لقتل صلاح الدين والقبض على مساعديه… وفي أثناء التحضير لمعركة حطين كان لابن نجا دور هام في التوجيه المعنوي للجيش وشحذ الهمم ورفع معنويات الجنود حتى فتحت القدس وبلغ ابن نجا مقام الشرف الأعظم لما كان خطيب أول جمعة تقام في المسجد الأقصى بعد تحريره من الصليبيين، ثم عاد إلى مصر ليثبت دعائم المذهب السني حتى توفاه الله عام 599هـ/1202م.

5- مدرسة أبي السعود الحريمي:

تتلمذ مؤسسها على الشيخ عبد القادر الجيلاني ولازمه في المدرسة القادرية حتى عُد من أقران الشيخ الجيلاني في الزهد والتصوف، وصارت إليه المشورة بعد وفاة الجيلاني، فكتب اللهُ له القبول عند الخاصة والعامة، وكان بيته ملاذًا للفقراء (8)، وقد أنشأ مدرسته على غرار المدرسة القادرية حتى صارت فرعًا منها في منهجها التعليمي والتربوي، وظل الشيخ أبو السعود على هذا المنهج حتى وفاته عام 582هـ/1186م (9).

6- مدرسة عمر بن مسعود البزاز:

كان مؤسسها من المقربين عند الشيخ عبد القادر ولازمه في مجالسه حتى علا شأنه وأقبل الناس عليه، وقد أنشأ مدرسة على نهج المدرسة القادرية التي تخرج منها، وكان له تأثير كبير في حياة الناس وتاب على يده خلق كثير.

7- المدرسة الجبائية:

أنشأها عبد الله الجبائي، وعبد الله هذا أصله من جبل لبنان، وكان نصرانيًا أُسِر ونُقل إلى دمشق، وفيها أعتنق الإسلام فاشتراه علي بن إبراهيم بن نجا وأرسله إلى الشيخ عبدالقادر الجيلاني كي يلازمه في مجالسه، وصار عبد الله من المقربين من الشيخ الجيلاني، وكانت ملازمته للشيخ أكثر من عشرين عامًا، وبعد وفاة الجيلاني ارتحل إلى أصبهان ليدرّس ويفتي فيها، وأنشَأَ فيها مدرسة شبيهة بالمدرسة القادرية التي تتلمذ فيها منذ عام 540هـ/1145م وظل يدرس فيها حتى وفاته عام 605هـ/1208م.

8- مدرسة ماجد الكردي أو الماجدية:

أسسها أبو محمد ماجد الكردي في منطقته التي ولد فيها وهي قوسان من العراق، وكان الشيخ ماجدُ هذا من الذين تواصلوا مع الشيخ الجيلاني، وكانت بينهما علاقة حميمة، وقد تبنى ماجد نهج الشيخ الجيلاني، وكانت مدرسته على هذا النحو حتى وفاته عام562هـ/1166م، وهو يتصدر للتدريس فيها (10).

9- المدرسة الحرَّانيّة:

أنشأ هذه المدرسة حياة بن قيس الحراني صاحب الكرامات والأحوال حتى إن الملوك والسلاطين كانوا يزورونه تبرّكًا به وطلبًا للدعاء منه، حيث كان السلطان نور الدين زنكي يزوره باستمرار، وكان الشيخ يحثه على الجهاد ضد الصليبيين، كذلك فعل مع السلطان صلاح الدين الأيوبي (11)، وعلى يده تتلمذ جمع غفير من طلبة العلم وكثر إقبال الناس عليه وكان ذلك سببًا في نشر العلم ونهج التصوف والزهد، وتحريض الناس على الجهاد في سبيل الله مع السلطانين نور الدين وصلاح الدين. ولم يقدر له أن يشهد فرحة النصر في حطين، فقد وافته المنية عام 581هـ/1185م.

أُنشئت كذلك العديد من المدارس الأخرى على يد تلاميذ الشيخ الجيلاني ومريديه (12)… وقد أسهمت هذه المدارس في رفد مشروع النهضة الذي بدأ على أيدي العلماء أمثال نظام الملك والغزالي والجيلاني، وأكمله السلاطين الصالحين أمثال نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي… ذلك المشروع العظيم الذي عُني بإعداد جيل الإصلاح السني لمقاومة كل من الجبهة الباطنية والزحف الصليبي وإحداث نقلة نوعية في المجتمع الإسلامي والحفاظ على الكيان السني في مشرق العالم الإسلامي ومغربه… فجزاهم عن أمة الإسلام كل خير…

الحلقة الرابعة هنا

المصدر: مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري

=======

(1) – ابن كثير: البداية والنهاية، ج12، ص302.

(2) – ابن العماد: شذرات الذهب،ج6، ص300.

(3) – الذهبي: العبر، ج3، ص28.

(4) – ابن خلكان: وفيات الأعيان، ج3، ص254.

(5) – الذهبي: تاريخ الإسلام، ج12، ص128- 129.

(6) – الصلابي: القائد المجاهد نور الدين محمود، ص396.

(7) – الصلابي: عصر الدولة الزنكية، ص413.

(8) – الذهبي: تاريخ الإسلام، ج12، ص745.

(9) – ماجد عرسان: هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص237.

(10) – ابن المستوفي: تاريخ أربيل، تحقيق سامي السيد خماس، دار الرشيد، العراق، 1980م، ج2، ص454

(11) – ابن الملقن: طبقات الأولياء، تحقيق نور الدين شريبه، مكتبة الخانجي، ط2،1994م، ص430

(12) – من هذه المدارس: مدرسة الشيخ رسلان الجعبري، ومدرسة عقيل المنيحي، ومدرسة الشيخ علي بن الهيتي، ومدرسة الحسن بن مسلم، ومدرسة الجوسقي، ومدرسة الشيخ عبد الرحمن الطفسونجي، ومدرسة مولى الزولي، ومدرسة محمد بن عبد البصري، ومدرسة القيلوي، ومدرسة علي بن وهب الربيعي، ومدرسة الشيخ بقا بن بطو. انظر كتاب: هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص224- 238.

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى