مقالاتمقالات مختارة

جهود الإمام عبد القادر الجيلاني وتلامذتهِ في الإصلاح السُّني وبناء المدارس (1)

جهود الإمام عبد القادر الجيلاني وتلامذتهِ في الإصلاح السُّني وبناء المدارس (1)

بقلم أيمن يزبك

تُعد المدرسة القادرية إحدى أهم المراكز العلمية التي لعبت دورًا فعّالاً في حركة الإصلاح والتجديد في مرحلة من الزمن سمّاها بعض الباحثين المعاصرين عصر الجمود، وكان بعض الحكام ممن قادوا حركة الإصلاح والتجديد أمثال نور الدّين زنكي وصلاح الدّين الأيّوبي يعتمدون عليها في رفدهم بالأجيال الواعية لبناء مشروعهم النهضوي وإتمام مسيرة الإصلاح… وقد أمدَّت هذه المدرسة الأمّة الإسلاميّة بكوادرَ علميّة تعدى تأثيرها جغرافية العالم السني ووصلوا إلى مناطق النفوذ الشيعي، وأسهموا بشكل فعّال في التّحول السياسيّ والفكريّ لتلك الشعوب… والحديث هنا يدور عن حياةِ مؤسس هذه المدرسة الشيخ عبد القادر الجيلاني ودوره التربوي والتعليمي، وعن بناء مشروع النهضة الذي بدأه الوزير نظام الملك الطوسي وأكمله نور الدين وصلاح الدين ومعهم ثلةٌ من العلماء، وعن الخطوط التي سارت عليها حركة الإصلاح والتجديد.

وسيكون الحديث عن الإمام الجيلاني ومنهجه الإصلاحي من خلال خمسة مباحث، الأول: أُعَرفُ فيه بأمور الشيخ العامة، والثاني: أتحدث فيه عن منهجه في البناء العقائدي لتلامذته، وأما في المبحث الثالث: فأتحدث فيه عن مفهوم التصوف عند الشيخ إذ كان أبرز ما اشتهر به منهجه الإصلاحي، وأما المبحث الرابع: فتكلمْت فيه عن معالم الطريقة القادرية وأهم ما يتعلمه المريد فيها، وأما المبحث الخامس والأخير: فعرفْت فيه بأهم المدارس القادرية في العالم الإسلامي في ذلك الوقت ونبذة عن حياة مؤسسيها، ثم عقبت ذلك بخاتمة فيها أهم النتائج والتوصيات.

المبحث الأول اسم الإمام ونسبه وشيوخه ومكانته العلمية

  • اسمه ونسبه:

هو أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح عبد الله بن جنكي دوست الجيلي الحنبلي شيخ بغداد، لقبه محي الدين  (1)، مولده في جيلان (2) من بلاد ما وراء طبرستان عام 471هـ/1078م، وفيها كانت نشأته وبداية طلبه للعلم.

وقد نشأ في كنف أسرة عُرفت بالزهد والصلاح والتقوى، وقد وصف الشيخ عبد القادر عائلته بقوله: (أهَّلني الله عز وجل ببركات متابعتي للرسول صلى الله عليه وسلم وبري بوالدي ووالداتي رحمهما الله عز وجل، والدي زاهد في الدنيا مع قدرته عليها ووالدتي وافقته على ذلك ورضيت بفعله، كانا من أهل الصلاح والديانة والشفقة على الخلق) (3).

وفي سن الشباب رحل الشيخ إلى بغداد عام 488هـ/1095م، وهي يومئذ ملتقى العلماء، حيث تتلمذ على شيخه في المذهب ابن عقيل الحنبلي وعنه أخذ فقه المذهب، كما تتلمذ على الشيخ أبي سعيد المخرّمي صاحب المدرسة.

عاش عبد القادر الجيلاني تسعين سنة وتوفي عام 561هـ/1165م، وكان كثير الولدان فكان له من الذكور سبعة وعشرون ومن الإناث واحد وعشرون، وكان من أولاده أحد عشر حملوا رسالته وفقهه إلى العالمين.

حظي الشيخ الجيلاني بثناء العلماء سواء من معاصريه أم ممّن جاء بعدهم فقال عنه السمعاني: – وهو من معاصريه – (إمام الحنابلة في زمانه)، وقال عنه الذهبي [ت748هـ]: (الشيخ الإمام العالم الزّاهد العارفُ القدوة شيخ الإسلام وعلم الأولياء ومحي الدين) (4) ، وقال ابن رجب [ت795هـ] في وصفه: (شيخ العصر وقدوة العارفين وسلطان المشايخ صاحب المقامات والكرامات) (5).

وقد كابد الشيخ الجيلاني مصاعب الحياة في سبيل طلب العلم الشرعي الذي سيؤهّله فيما بعد للانضمام لصفوف عظام الدعاة المنافحين عن دين الله وشريعته والـمُثَبِّتين لمذهب أهل السنة والجماعة… ولم يكن الإمام عبد القادر بدعًا في ذلك، فقد أصابه من المشقة والعنت ما أصاب الذين سبقوه في العلماء العاملين كابن جرير الطبري وأبو حاتم الرازي ونظام الملك والغزالي.

وقد وصف الإمام الجيلاني معاناته في سبيل طلب العلم فقال: (وكنت أقتات بخرنوب الشوك، وقمامة البقل، وورق الخس من جانب النهر والشط، وبلغت الضائقة في غلاء نزل ببغداد إلى أن بقيت أيامًا لم آكل فيها طعامًا، بل كنت أتتبع المنبوذات أطعمها، فخرجت يومًا من شدة الجوع إلى الشط لعلي أجد ورق الخس أو البقل، أو غير ذلك فأتقوّت به. فما ذهبت إلى موضع إلا وغيري قد سبقني إليه وإن وجدت أجد الفقراء يتزاحمون عليه فأتركه حُبًّا، فرجعت أمشي وسط البلد لا أدرك منبوذًا إلا وقد سبقت إليه، حتى وصلت إلى مسجد ياسين بسوق الريحانيين ببغداد وقد أجهدني الضعف، وعجزت عن التماسك، فدخلت إليه وقعدت في جانب منه وقد كدت أصافح الموت، إذ دخل شاب أعجمي ومعه خبزٌ صافٍ وشواء، وجلس يأكل، فكنت أكاد كلما رفع يده باللقمة أن أفتح فمي من شدة الجوع، حتى أنكرت ذلك على نفسي: فقلت ما هذا؟ وقلت: ما ههنا إلا الله أو ما قضاه من الموت، إذ التفت إلى العجمي فرآني فقال: بسم الله يا أخي! فأبيت فأقسم علي فبادرت نفسي فخالفتها فأقسم أيضًا فأجبته، فأكلت متقاصرًا، فأخذ يسألني: ما شغلك؟ ومن أين أنت؟ وبمن تعرف؟ فقلت: أنا متفقّهٌ من جيلان! فقال: وأنا من جيلان فهل تعرف شابًّا جيلانيًّا يسمى عبد القادر يُعرف بسبط أبي عبد الله الصومعي الزاهد؟ فقلت: أنا هو، فاضطرب وتغير وجهه وقال: والله لقد وصلت إلى بغداد معي بقية نفقة لي، فسألت عنك فلم يرشدني أحد ونفذت عقَّتي، ولي ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي، إلا مما كان لك معي، وقد حلت لي الميتة وأخذت من وديعتك هذا الخبز والشواء، فكل طيبًا فإنما هو لك وأنا ضيفك الآن بعد أن كنت ضيفي، فقلت له: وما ذاك؟ فقال: أمُّك وجهت لك معي ثمانية دنانير فاشتريت منها هذا للاضطرار، فأنا معتذر إليك! فسكَّتُّه وطيّبتُ نفسه ودفعت إليه باقي الطعام وشيئًا من الذهب برسم النفقة فقبله وانصرف) (6).

  • شيوخه:

استقى الشيخ عبد القادر العلم والمعرفة من ينابيع عدة، وكان أولها في بغداد:

أ- شيخه أبو سعيد: المبارك بن علي المخرمي شيخ الحنابلة، وهو الذي بنى مدرسة في باب الأزج وجلس فيها للتدريس ثم تولى المهمة بعده تلميذه عبد القادر، وكانت وفاة أبي سعيد عام510هـ/1116م (7).

ب- أبو الوفاء علي بن عقيل بن عبد الله البغدادي شيخ الحنابلة في عصره، وصاحب التصانيف وصفه الذهبي بقوله: (بحر المعرفة) (8).

ج- حماد بن مسلم الدبّاس، وكان على درجة عالية من العلم والاستقامة وقد تحدث عنه ابن تيمية حيث ذكره وتلميذه الجيلاني بقوله: (فأمر الشيخ عبد القادر وشيخه حماد الدباس وغيرهما من المشايخ أهل الاستقامة – رضي الله عنهم – بأنه لا يريد السالك مرادًا قطُّ، وأنه لا يريد مع إرادة الله عز وجل سواها بل يجري فعله فيه فيكون هو مراد الحق) (9).

د- أبو محمد جعفر بن أحمد البغدادي السراج محدث بغداد، وصاحب التصانيف كان من يلتقي به من التلاميذ، ويأخذ عنه يتفاخر بذلك وتصبح هذه منقبة له بين طلبة العلم (10).

ه- أبو عبد الله يحيى بن الإمام أبي علي الحسن بن أحمد بن البناء البغدادي الحنبلي، وكان من أكثر من أثنى عليه من العلماء وذكروا فضائله كبنائه للمساجد (11).

يلاحظ من ذكر هؤلاء أن الإمام عبد القادر الجيلاني قد أخذ فقه الحنابلة عن أكثر من شيخ مما جعله على قدر كبير من العلم والإحاطة بفروع المذهب واجتهادات أئمته ومصنفاتهم في ذلك.

  • مكانته العلمية وثناء العلماء عليه:

ومن رحم المعاناة وضيق الفاقة وُلِد هذا الفقيه النحرير الشيخ عبد القادر الجيلاني فقيهًا محدّثًا مفسّرًا واعظًا جمع بين صنوف العلم والتبحر فيها، وتشهد له تصانيفه بذلك إضافة إلى ثناء كبار علماء الإسلام عليه، فهذا تلميذه موفق الدين بن قدامة المقدسي صاحب المغني يقول: (دخلنا بغداد سنة (561هـ) فإذا الشيخ الإمام محي الدين عبد القادر ممن انتهت إليه الرئاسة بها علمًا وعملًا وحالًا وافتاءً، وكان يكفي طالب العلم عن قصده غيره من كثرة ما اجتمع فيه من العلوم والصبر على المشتغلين وسعة الصدر، وكان ملء العين وجمع الله فيه أوصافًا جميلة وأحوالًا عزيزة، وما رأيت بعده مثله وكل الصيد في جوف الفراء) (12).

وهذا ابنه عبد الوهاب الذي ورث أباه عبد القادر في المذهب، يقول: (كان والدي رحمه الله يتكلم في الأسبوع ثلاث مرات بكرة الجمعة وعشية الثلاثاء وبالرباط بكرة الأحد، وكان يحضره العلماء والفقهاء والمشايخ وغيرهم، ومدة كلامه على الناس أربعون سنة أولها 521هـ وآخرها 561هـ، ومدّة تصدره للتدريس والفتوى بمدرسته 33 سنة أولها 528هـ، وآخرها561هـ، وكان يكتب ما يقول في مجلسه أربعمائة محبرة) (13).

وأثنى عليه ابن تيمية ثناءً جميلًا فقال: (الشيخ عبد القادر ونحوه من أعظم مشايخ زمانهم أمرًا بالتزام الشرع والأمر والنهي وتقديمه على الذوق والقدر، من أعظم المشايخ أمرًا بترك الهوى والإرادة النفسية) (14).

يتبع

المصدر: مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري

=======

(1) – وقد توقف ابن كثير وأبو الفداء الحموي عند هذا النسب، في حين أن ابن الوردي والصفدي والشعراني ينسبه إلى آل البيت، وأنه من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب: قال الذهبي: (وزاد بعض الناس في نسبه إلى أن وصله بالحسن بن علي رضي الله عنه فقال: ابن أبي عبد الله بن عبد الله بن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه) انظر: الذهبي: تاريخ الإسلام، ج12، ص252.

(2) – كورة فارسية تقع جنوبي بحر الخزر وشمالي جبال البرز ويحدها من الشرق طبرستان أو مازندران، ومن الشمال ملتقى نهر (الكر) بنهر (الرس)، وهذه الكورة حافلة بالمستنقعات، ومنه اشتق اسمها (جيل) وهو الطين أو الوحل وتعرف البقاع الجبلية منه باسم الديلم. انظر ابن شمائل: مراصد الاطلاع، ج1، ص368.

(3) – انظر: ابن رجب: ذيل طبقات الحنابلة، ج1، ص298.

(4) – سير أعلام النبلاء، ج20، ص439.

(5) – ابن رجب: ذيل طبقات الحنابلة، ج1، ص290

(6) – انظر: ذيل طبقات الحنابلة، ج1، ص298.

(7) – الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج19، ص428

(8) – الذهبي: المصدر السابق، ج19، ص446.

(9) – ابن تيمية:الفتاوى،ج10، ص455.

(10) – الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج19، ص228.

(11) – الذهبي: المصدر السابق، ج20، ص6.

(12) – ابن رجب: ذيل طبقات الحنابلة، ج1، ص294.

(13) – الشطنوفي: بهجة الأسرار، ص95.

(14) – ابن تيمية: الفتاوى، ج10، ص488.

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى