جناية ما بعد الحداثة على الإنسان: نظرة في الرؤية النقدية لعبد الوهاب المسيري
بقلم رياض صدقي
توطئة
يُعد عبد الوهاب المسيري أحد المفكرين البارزين في العالم العربي، فقد تميز بتخصصه في معالجة الفكر الغربي بطريقة فريدة، مبرهناً على قدرة عقلية فائقة في التحليل والتفكيك وفهم الظواهر من زاويا مختلفة، وهو من القلائل الذين يعالجون القضايا بعمق كبير وتجربة عظيمة، فقد ساعده في ذلك دراسته للأدب الإنجليزي بأمريكا مما فتح أمامه الطريق لفهم الواقع الغربي فهماً دقيقاً مستعيناً بأدوات ونماذج تحليلية قوية، هذا بالإضافة لتحولاته الفكرية من اليسار والماركسية إلى الإسلام التي أعطته رؤية واسعة وموضوعية. سأسلط الضوء في مقالي هذا على مفهوم ما بعد الحداثة داخل المشروع الفكري للمسيري، ساعيا للإجابة عن الأسئلة التالية: ما هي دلالات مفهوم ما بعد الحداثة ؟ وكيف أثرت الفلسفة المابعد حداثية على الإنسان المعاصر؟ وما مدى صلاحية هذا التصور للإنسان؟
وقفة مع مفهوم “ما بعد الحداثة”
ما بعد الحداثة مصطلح قلقٌ، لذلك لا يمكن تحديده بحدٍّ متفَق عليه، فمن هنا يعطينا عبد الوهاب المسيري مجموعة من المحددات التي تكشف لنا لُبس هذا المصطلح وغموضه، فيقول: هي حلول اللاعقلانية المادية محل العقلانية المادية، حيث تختفي تماماً القيم والثوابت والمطلقات، ويصبح لكل فرد ثوابته وقيمه ودينه، وتختفي بهذا أي معايير أو مقاييس أو قيم لتحل محلها لامعيارية كاملة ونسبية مطلقة شاملة، كل هذا يجري في عالم ذري لا قداسة فيه ولا إله، فهي باختصار إنكار الأساس والمرجعيات [1].
والمابعديات داخل النسق الغربي تُعبر عن النهايات (نهاية الميتافيزيقا، نهاية التاريخ، نهاية الحقيقة، نهاية البحث عن المعنى)، فمن هنا تكون مرحلة مابعد الحداثة -حسب المسيري- هي مرحلة نهاية الحداثة، وهذه المابعديات تحيل على أزمة حقيقية يعاني منها الغرب.
ويمكن القول إن ما بعد الحداثة ما هي إلا أحد تفرعات الفلسفة المادية القاهرة التي تشبع بها الفكر الغربي في العصر الحاضر، والتي تنطلق من أطروحات فلسفية متداخلة كموت الإله مع نيتشه، ونهاية التاريخ مع فوكوياما، وموت الإنسان مع فوكو، والنزعة التفكيكية مع دريدا.
من الناحية التاريخية، يقسم المسيري تاريخ الحداثة إلى ثلاث مراحل وهي: مرحلة التحديث ومرحلة الحداثة ثم مرحلة ما بعد الحداثة، كما يرى أن عام 1965م هو المنعطف الأساس لتبلور فكرة مابعد الحداثة، وبروز مظاهرها في الواقع من خلال مجالات مختلفة [2].
أما إذا أردنا الحديث عن نشأة مصطلح ما بعد الحداثة، فأول من استعمله هو هيسمانز J.K.Huysumans سنة 1879م، كما استُعمل المصطلح في الأدب الإسباني وتحديداً عند أونيس في كتابه أنطولوجيا الشعر الإسباني سنة 1934م، الذي بين فيه أن ما بعد الحداثة ما هي إلا مرحلة انتقالية تغطي سنوات 1905-1914م، وإنها مسبوقة بحداثة تبدأ من سنة 1896م وتنتهي في 1905م، ثم تعقبها مرحلة الحداثة المتشددة والمتطرفة Ultra-moderne [3]. كما يعود الفضل في استعمال مصطلح “مابعد الحداثة”، إلى المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي سنة 1947م في كتابه دراسات تاريخية، حيث وصف المجتمع الغربي باللاعقلانية والفوضوية واللامعيارية، وذلك بسبب أفول دور البورجوازية في التحكم بتطور الرأسمالية الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحلول الطبقة العاملة الصناعية محلها [4].
أهم مرتكزات مابعد الحداثة:
لكل فلسفة مرتكزات ومنطلقات ضرورية، ومن هنا فإن فكرة ما بعد الحداثة تقوم -حسب المسيري- على ثلاثة أوتاد وهي: عنصرية التسوية، وهدم المعيارية، والنسبية المعرفية والأخلاقية.
أولا: هدم المعيارية
الخطاب المابعد حداثي ينعدم فيه المعيارالإنساني، ويبرز هذا بشكل جلي في الإصرار على استخدام مصطلح “أقلية” للإشارة إلى كل جماعة بشرية، فعلى سبيل المثال نتج عن هذا التطبيع مع الشواذ جنسياً، حيث يتم تصنيف الشذوذ الجنسي في المحافل العلمية الغربية باعتباره شيئاً طبيعياً عادياً، فإن ظهر أحد الأطباء وزعم أن الشذوذ الجنسي يمكن إزالة أسبابه عن طريق عمليات جراحية فإن الدنيا ستقوم ولا تقعد، لأن هذا فيه افتراض أن الشذوذ الجنسي انحراف عن المعيارية الإنسانية [5].
وفي السياق نفسه، يظهر لنا كذلك دعاة التمركز حول الأنثى وحق الفرد المطلق، فتتم الدعوة إلى العلاقات الرضائية خارج أي أسس أخلاقية أو اجتماعية، وفي هذا هجوم على المعيارية الإنسانية ومركزية الإنسان في الكون، فيصبح الإنسان ذا بعد بهيمي خالص، وهنا يتم اختزال الإنسان إلى مبدإ مادي واحد هو الجنس واللذة.
ويرى المسيري أن مابعد الحداثة هو عالم الصيرورة الكاملة، فكل شيء فيه متغير، لذا لا يمكن أن نجد فيه هدفا أو غاية، لهذا يرفض دعاتها فكرة الإله وفكرة القداسة، فهي في نظره تأخذ شكلاً رجعياً مغرقاً في الرجعية بسبب إنكارها لأية معيارية، وبالتالي يمكن أن نعبر عنها بأنها أيديولوجيا القبول البرجماتي للوضع القائم والإذعان والخنوع له و التكيف معه، أي اللعب مع الواقع بدلا من تغييره [6]. وانعدام المعيار هذا ينقلنا إلى فوضى معرفية، فليس هناك شيء نتحاكم إليه، وكل الأحكام خاضعة للأهواء والأذواق الشخصية، وهذا سيؤدي بالضرورة إلى نتائج مخالفة للفطرة الإنسانية.
ثانيا: عنصرية التسوية
تعبر مرحلة مابعد الحداثة عن الاستهلاك والسيولة الشاملة، فهي لا تريد أن تُقر بوجود التفاوتات الطبيعية بين بني البشر، أي أنها ترفض الطبيعة البشرية كمرجعية نهائية ومركز ثابت وتستبدله بإطار الطبيعة/المادة، وفي هذا الإطار لا يعدو أن يكون الإنسان ركاما من المادة، وما عدا ذلك فمجرد أوهام وأضغاث أحلام، وتتجلى عنصرية التسوية في بروز ألفاظ رنانة كالمساواة والتسامح والتعددية، التي تتسم بحمولات لا إنسانية، فهي تسعى حسب -المسيري- إلى ترسيخ فكرة الإنسان صاحب البعد الواحد، أي إنسان له حدود إنسانية خاصة قادر على تغيير قيمه بين ليلة وضحاها، ومن هنا تظهر دعوات الدفاع عن الشواذ جنسياً والتمركز حول الأنثى والحق المطلق في أن يفعل الفرد ما يشاء [7].
ويميز المسيري هنا بين التساوي والتسوية، فهذه الأخيرة يقصد بها المماثلة بين البشر في جميع الوجوه، وبالتالي تذهب هذه الرؤية إلى أن كل ما في العالم من بشر وحيوان وجماد متماثل، وعنصرية التسوية هذه تنطلق من قانون مادي واحد يتجاهل الخصائص الإنسانية.
وتظهر عنصرية التسوية المعادية للإنسان عند ريتشارد دوكينز، هذا الأخير الذي سعى إلى منح القرود -باعتبارهم أقلية مضطهدة- حقوقاً متساوية مع البشر، على أساس الأطروحة الداروينية التي تذهب إلى تسوية الإنسان بالقرد، ثم يصفي دوكينز كل الثنائيات حين يريد أن يماثل بين المنظومة الأخلاقية لدى الإنسان والقردة، ومن هذا المنطلق ظهر ما يسمى بمشروع القرد الأعظم الذي أصدر إعلان القردة العليا على غرار إعلان حقوق الإنسان [8].
وعنصرية التسوية هذه قائمة على محاولة التسوية بين أشياء لا تقبل التسوية في واقعها وطبيعتها وحقيقتها، فهي نوع من الظلم لا العدل، وهذا المبدأ يوضح فقدان البوصلة في الخطاب المابعد حداثي، حيث لم يعد هناك فرق بين الإنسان والحيوان والجماد.
إن عنصرية التسوية تسعى إلى القضاء على مفهوم الهوية الإنسانية، فهي تصُبُّ البشر كلهم في قالب مادي طبيعي موحد خاضع لمنظومة معرفية واحدة، مما ينبئ بنوعٍ من الاختزالية ويضرب بمفهوم التنوع والخصوصية عرض الحائط.
ثالثا: النسبية المعرفية والأخلاقية
من أهم سمات مرحلة مابعد الحداثة غياب المرجعيات وتآكل الذات وهيمنة النسبية واللايقين، فهي لا تعترف بأي مرجعيات إنسانية أو موضوعية، فيتسم العالم بالتفتت، والانقطاع والفوضى، وحكم المصادفة وغياب السببية، وظهور الاحتمالية والتغير الكامل والمستمر، وبهذا تصبح المعرفة الإنسانية الكلية متعذرة [9]. ويعد نيتشه ممن وضعوا هذا الأساس بفكرة موت الإله وتأليه الإنسان، ونجد هذا أيضا في الأطروحة السفسطائية في الحقبة ماقبل السقراطية، حيث ضخم بروتاغوراس من معيارية الإنسان وأكد على النسبية المطلقة في المعرفة والأخلاق، ويعاد هذا بصيغة أخرى في الفلسفة المعاصرة مع دريدا مثلا الذي يرى أن الحقيقة تعددية وليست كلية.
أما من المنظور الأخلاقي، فلا وجود لأي معيار في عصر مابعد الحداثة، وبهذا لا يمكن تأسيس نظام أخلاقي صلب وكلي، فكل ما يمكن التوصل إليه هو أخلاقيات برجماتية تأخذ شكل القوة والهيمنة، وتمظهر هذا في خضوع الضعفاء وإذعانهم للأقوياء [10]، فيصعب تحديد معنى العدل والظلم في منظومة فكرية كهذه قائمة على النسبية الأخلاقية والتيهان المعرفي.
انعكاسات ما بعد الحداثة على مجالات الحياة
كان لفلسفة ما بعد الحداثة آثار وخيمة على المجتمعات الغربية، وبرزت هذه الآثار في مجالات متعددة كالاقتصاد والسياسة والمجال الاجتماعي والفن والأدب والدين، ويسلط عبد الوهاب المسيري الضوء على ثلاث مجالات مهمة هي: المجال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وذلك انطلاقا من تجربته الكبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية التي امتدت لخمس عشرة سنة، وقام خلالها بتحليل الواقع الأمريكي باعتباره نموذج حي للتصور المابعد حداثي.
من الناحية الاقتصادية، أهم ما جاءت به حقبة ما بعد الحداثة هو شعار “الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك”، فأضحى ما يحرك الإنسان الغربي هو الاستهلاك بدافع اللذة، بحيث أصبح نمط الاستهلاك لدى الفرد مؤشراً على مكانته الاجتماعية، والرغبة في الاستهلاك من أجل اللذة لا المنفعة هو الذي يدفع المصانع لإنتاج السلع غير الضرورية، ومن ثم أصبح الإنسان الغربي يستهلك أشياءً لا ليلبي بها حاجاته، وإنما ليشبع بها لذته التي لا تنتهي وليس لها حد، وجاء هذا في سياق تحكم الرأسمالية في العملية الإنتاجية، فانتقل النظام من المنفعة إلى اللذة وقداسة الاستهلاك [11].
ويعبر السوسيولوجي ليبوفتسكي عن هذا بمفهوم “الترف”، حيث صار العصر المابعد حداثي يشهد عبادة الماركات والحاجيات النادرة، والعجرفة، والميل إلى التألق، والاستهلاكات الحادة، لهذا ظهر لنا ما يعرف بالتمتع بالذات والحياة من أجل الذات [12].
وفي نفس الصدد يسير العلامة ابن خلدون، فيرى أن الترف يؤدي بأصحابه إلى التخلق بالفحشاء والعكوف على الشهوات والإقبال على الدنيا، وفي نظره، أن هذا مما جعل أهل الحضر أسفل أخلاقاً من البدو [13].
يوضح لنا هذا اختلال الميزان لدى الإنسان الغربي، فلم يعد هناك حدٌ لشهواته ورغباته الجامحة، فكل شيء يصلح توظيفه لخدمة لذاته وغرائزه يتم استثماره سواء أكان هذا متفقاً مع الضمير الأخلاقي أم مخالفاً له، فالمهم في الأول والأخير هو إشباع لذاتنا ومضاعفة الأرباح على أرباب الرأسمالية.
أما من الناحية الاجتماعية فالأمر كان أشد وأمر، ويبين لنا المسيري هذا بوضوح بقوله: إن مرحلة ما بعد الحداثة تم القضاء فيها على مفهوم المركز، فأصبحنا بذلك أمام تعدد المراكز، وجراء هذا التعدد أصبح من المتعذر على الإنسان أن يتجاوز حدوده المادية الضيقة [14] ويضرب مثالاً على هذا من عمق تجربته في أمريكا، فيحكي أنه قبل عام 1965م كان لباس المرأة الغربية محتشماً نسبياً، أما بعد هذا التاريخ تنامت ظاهرة العري، وتزامناً مع هذا برزت ظواهر أخرى كالشذوذ الجنسي، والحمل السفاح بين المراهقات، وانتشار المخدرات، وتآكل الأسرة، والحمل خارج إطار الأسرة، وتقديس اللذة [15].
ومن الآثار المدمرة التي جرتها فلسفة مابعد الحداثة على المجتمع، تآكل الأسرة في ظل انفصال الجنس عن القيم الأخلاقية والاجتماعية، فيصبح النشاط الجنسي مرجعية ذاته ويزداد السعار الجنسي، ويرى المسيري أن اللذة أضحت من الآليات التي يوظفها المجتمع العلماني للضبط الاجتماعي من خلال الإغواء، فتتم إشاعة الإحساس بأن حق الإنسان الأساسي والوحيد هو إشباع اللذة، فهو أقصى تعبير عن الحرية الفردية، وهو ما يعني ضمور اهتمام المواطن برقعة الحياة العامة وتركيزه على ذاته ورغباته، وهذه اللذات يتم تشكيلها وصياغتها وتوجيهها من قبل أجهزة الإعلام، فيظهر لنا الإنسان ذو البعد الواحد، ذلك الفرد المُخدر الذي لا يمكنه التحكم في رغباته الحسية، والذي تتركز أحلامه في تحقيق انتصار جنسي أو فوز النادي الذي ينتمي إليه فوزاً ساحقاً [16].
ومن شدة ما فقد الإنسان الغربي المعنى، بدأ يتخبط في شذوذات غريبة، فأصبحت الإباحية صناعة، وبدأنا نسمع بالاختيار الجنسي أي تحييد الجنس و تطبيعه، وجراء هذا ظهرت عدة أشكال منافية للفطرة كممارسة الجنس مع الحيوانات Zoophilia و مع الأطفال Pedophilia، وتحرر الجنس من الإطار الاجتماعي والأخلاقي مما أدى إلى ظهور أشكال بديلة عن الأسرة، مثل أسرة تتكون من رجلين أو امرأتين [17].
وإنك لتعجب أشد العجب عندما ترى محاولات المقلدة لاستيراد هذه الأمراض الفتاكة التي يعاني منها المجتمع الغربي إلى المجتمعات الإسلامية تحت شعارات رنانة ومزخرفة، متجاهلين هذه الآثار المدمرة ومآلاتها السيئة المهلكة.
وعندما ننتقل إلى المجال السياسي، يرى المسيري أنه بعد 1965م، ضمرت الدولة القومية ومؤسساتها وظهرت مراكز قوى أخرى (نقابات -جماعات ضغط- شركات ضخمة منظمات غير حكومية)، فالسلطة لم تعد مجموعة مؤسسات مركزية يمكن الاستيلاء عليها والتحكم فيها، فهي موزعة بين عدة مؤسسات متغلغلة في المجتمع، ولم يعد هناك إيمان بالصالح العام، كما بدأ التوجه الحاد نحو اللذة يقوض مركزية الدولة، إذ تصاعدت النزعات الفردية [18].
لذلك يؤكد المسيري على أن مابعد الحداثة هي أيديولوجية النظام العالمي الجديد، فقد تمت عولمة بعض القضايا مثل الطاقة النووية – التلوث البيئي – الإيدز- الثورة الإلكترونية، ويمكن القول بأن الدول الاستعمارية السابقة تحاول في الوقت الحاضر استغلال الموارد الطبيعية والبشرية على المستوى العالمي بدون مواجهات عسكرية، وذلك من خلال تجنيد النخب المحلية الحاكمة لتنفيذ مخططات الدول الغربية، ومن خلال تزايد معدلات التدويل، بحيث يتحول الكون بأسره إلى شيء متجانس يتسم بالواحدية الدولية، لا خصوصيات له ولا ثنائيات ولا تنوع، فبدلاً من استعمار الشعوب، يحاول الغرب أمركتها وكوكلتها (نسبة إلى الكوكاكولا) وتحل الكوكاكولانية بدلا من الكولونيالية، وهنا يتم الحديث عن نهاية التاريخ ونهاية الأيديولوجيا [19].
موت الإنسانية داخل التصور المابعد حداثي
إن الخطاب المابعد حداثي يمثل أزمة متكاملة الأركان في عالم اليوم، ويتجلى هذا في بروز النسبية المطلقة والإباحة المطلقة، فلم تعد هنالك حدود يحترمها الإنسان أو مرجعية يستند إليها في حياته، وبالتالي ظهرت لنا جملة من الآفات المهلكة للإنسان والمبشرة بخراب العمران.
في خضم نقده للرؤية المابعد حداثية، يرى المسيري أن إعلان موت الإله يقابله موت الشيطان، وهذا يؤدي بنا إلى انعدام معيار الخير والشر والعدل والظلم، وبالتالي نصل إلى موت الإنسان نفسه، وبهذا نحصل على الفكر الواحدي حيث تتم تصفية كل الثنائيات من حق وباطل، روح وجسد، دين ودنيا، المقدس و المدنس [20].
كما يذهب المسيري إلى التأكيد على مادية التصور المابعد حداثي، فهو يؤدي إلى إنكار الكليات، وهذا يعني تجزيء العالم مما يوصل إلى انعدام التواصل مع الآخرين وانعدام الإدراك، فالنزعة المابعد حداثية تميل إلى المنظومة التفكيكية، لذلك فهي تفصل بين العقل والواقع وبين الدال والمدلول، كأن كل شيء أصبح مكتفيا بذاته، ومن هنا يصح أن نطلق عليها فلسفة الإسهال الفكري.
وحسب نظرة المسيري، فإن الذات الإنسانية المستقلة الواعية في مرحلة ما بعد الحداثة تختفي وتصير ذاتاً منغلقة على نفسها وغير متماسكة، وتختفي المعيارية وهو ما يعني استحالة المحاكاة أو التفاعل أو التواصل [21]. وهذا يبشر بانهيار المنظومة الدلالية والجمالية.
إن ما بعد الحداثة فلسفة مادية متطرفة معادية للعقل، فهي تنكر الكون والكليات والمطلقات والحدود وتنكر وجود الذات والموضوع وتنكر وجود أي مركز، وتعلن استحالة قيام نظم معرفية وأخلاقية عالمية، وهذه الفلسفة لا تقف ضد الأديان فحسب وإنما تقف ضد العقلانية المادية الصلبة ذاتها، وبالتالي فإن الحضارة المعاصرة ذات نسبية كاملة وسيولة شاملة [22].
إن الإنسان الذي يعيش في هذه الحياة بلا معنى ولا غاية يعتبر ضالاً بالمصطلح القرآني، أي أنه يسير إلى طريق مجهول، والحضارة الغربية المعاصرة بقيادة فلسفة مابعد الحداثة تعبر عن هذا المصطلح القرآني بجلاء، فهي حضارة فقدت التوازن وضلت الطريق، وأصبحت بهذا خاضعة لمنطق القوة والبقاء للأصلح.
وحاصل الكلام في هذا المقال، أن ما بعد الحداثة فلسفة لا إنسانية ومعادية لما هو إنساني، وفي هذا الصدد تتبين ضرورة خلق التوازن في حياة البشر، ولا يمكن ذلك إلا بجعل الإله مركزاً للكون، فهو في نظر المسيري الكفيل بإرجاع المعنى للحياة والتقليص من حدة الفكر المادي، كما أن التصور الديني ضروري لأنه يزود الإنسان بمنظومة قيمية وغائية، وهذا بالضبط ما تفتقده فكرة مابعد الحداثة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] العلمانية و الحداثة والعولمة، حوارات مع الدكتور عبد الوهاب المسيري، سوزان حرفي، ص 236، دار الفكر
[2] حوارات مع الدكتور عبد الوهاب المسيري، سوزان حرفي، ص 231
[3] مابعد الحداثة و التنوير، الزواوي بغوره، ص 12
[4] المصدر السابق، ص 13
[5] الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، عبد الوهاب المسيري ص 189
[6] الحداثة ومابعد الحداثة، عبد الوهاب المسيري وفتحي التريكي، ص 93
[7] الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، عبد الوهاب المسيري ص 188
[8] المصدر السابق، ص 194
[9] الحداثة ومابعد الحداثة، عبد الوهاب المسيري وفتحي التريكي، ص 87
[10] المصدر السابق، ص 94
[11] العلمانية والحداثة و العولمة، حوارات مع الدكتور عبد الوهاب المسيري، سوزان حرفي، ص 233
[12] الترف الخالد، جيل ليبوفتسكي، ترجمة الشيماء مجدي، ص 59
[13] منطق ابن خلدون، علي الوردي، ص 256
[14] حوارات مع الدكتور عبد الوهاب المسيري، سوزان حرفي، ص 229
[15] المصدر نفسه، ص 231
[16] المصدر نفسه، ص 237
[17] حوارات مع الدكتور عبد الوهاب المسيري، سوزان حرفي، ص 132
[18] دراسات معرفية في الحداثة الغربية، عبد الوهاب المسيري، ص 109
[19] المصدر السابق، ص 112
[20] حوارات مع عبد الوهاب المسيري، ص 253
[21] دراسات معرفية في الحداثة الغربية، عبد الوهاب المسيري، ص 122
[22] المصدر السابق، ص 129
(المصدر: مركز يقين)