جماليات الحوار في القرآن المجيد
بقلم محمد عبد الشافي القوصي
الحوار هو مناقشة بين طرفيْن أوْ مجموعتيْن؛ بقصد تصحيح فِكْر، وإظهار حُجَّة، وإثبات حقٍّ، ودفع شُبهة، وردِّ الفاسد من القول والرأي. لذا يُعدُّ (الحــوار) مِن أبرز الأساليب الحكيمة التي استعملها القرآنُ المجيد لإقامة الأدلَّة على وحدانية الله تعالى، وعلى صِدق الأنبياء والرسل الكرام فيما يُبلِّغون عن الحق سبحانه.
ومَن يتأمل الحوارات التي عرضها القرآن، يتأكد له أنَّ الدعوة إلى الله تعالى تعتمد اعتماداً كبيراً على أسلوب الحوار في توضيح المواقف، وجلاء الحقائق، وهداية القلب، وتحريك الوجدان، والتدرُّج بالحجج؛ حتى يكون الإيمان على بيِّنةٍ ونور.
حسبنا أنْ نعلم أنَّ مادة (قول) تكررت في القرآن (1722 مرة) موزَّعة على تسعة وأربعين اشتقاقاً، على كل أطراف المقام الحواري: مِن متكلِّم ومُخاطَب، ومُستمِع ومحاوِر، وغائب وحاضـر، ومُذكَّر ومـؤنَّث ومُثنَّى وجمع. على النحو التالي: (قال) 529 مرة، (يقولون) 92 مرة، (قالوا)، (قل) 332 مرة، (قولوا) 13 مرة، (قِيل) 49 مرة، (القول) 52 مرة، (قولهم) 12 مرة. وهذه الأرقام مؤشِّر على الحوارية عالية الترداد داخل الخطاب القرآني المجيد.
هذا، وقد اعتمد الحوار القرآني مختلف درجات اللِّين والحكمة والموعظة الحسنة حتى مع الكافر (الذي سبق في عِلْم الله أنه لن يؤمن): {اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى 43 فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 – 44]. {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
أيضـــاً: طالب بأنْ يُختَم الحوار بهدوء وأدب دون توتر أوْ انفعـال مهما كانت النتائج: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35]. {وَإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْـجَاهِلِينَ} [القصص: 55].
«وَلْنأخذ حوار سيدنا (شُعيْب) مع قومه، نموذجاً لأدب الحوار، ودرجاته، ومحاوره الدعوية».
لقد عرض القرآنُ الكريم منهج سيدنا شُعيْب عليه السلام ورحلته الدعوية، وكيف حاور قومه… ماذا قال لهم؟ وبماذا أجابوه؟ وكيف فنَّد مزاعمهم؟ وماذا كانت النتيجة!
إنَّ المتأمِّل في الأسلوب الدعوي الذي انتهجه سيدنا شُعيْب، يلمس جماليات حوار الأنبياء مع أقوامهم؛ المتضمِّنة لأدب الحوار، والمنهج الذي سلكوه لمد الجسور مع المدعوِّين، وجرِّهِم إلى سماع كلام الله تعالى. كذلك الخصال التي تحلَّوا بها: كالحِلْم، والتواضع، والصبر، وتحمُّل الأذى، وبذْل المعروف، وإنفاق العفو، والإخلاص وحُسن التوكُّل، والتدرُّج في القضايا الدعوية، والقدرة على الإقناع باستخدام أساليب: الأمر والنهي، والترغيب والترهيب، والنصح، والتذكير، والتلطُّف، والاسترحام، والتمنِّي والرجاء والدعاء، والتنبيه، والعتاب، والتحذير، والتخـويف، والتبكيت، والمحاججة، والتقـرير، والإغراء… وغير ذلك من الأساليب التي يمكن من خلالها الوصول إلى مفاتيح القلوب، وفِقه النفوس، وشرح الصدور. وقد لجأ سيدنا (شُعيْب) عليه السلام إلى كل هذه الأساليب، واستخدمها ببراعة فائقة أثناء تبليغ دعوتهِ لقومه!
فمِن فِقْه سيدنا (شُــعيْب) وفِطنتِه؛ أنه استهلَّ دعوته بحوار قومه في القضايا الكبرى، والموضوعات الجوهرية؛ التي يقوم عليها الدِّين، ويتحقَّق بها الإيمان؛ فقد دعاهم إلى وحدانية الله وطاعته، ثمَّ نهاهم عن التطفيف في الكيل والميزان، وحذَّرهم من الإفساد في الأرض، والصدّ عن سبيل الله، وفنَّد مزاعمهم الكاذبة، وأقام عليهم الحجَّة.
الدعوة إلى وحدانية الله:
بدأ (شُعيبُ) عليه السلام دعوة قومه إلى (الوصية الأولى) التي نصَّتْ عليها جميع رسالات السماء، وهي (الوحدانية)؛ لأنَّهم إذا آمنَوا بالله واليوم الآخِر، فسيمتثلون طوعاً للأوامر والنواهي:
{وَإلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84]. {وَإلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِر} [العنكبوت: 36]. ثمَّ حثَّهم على التقوى، بعدما أخبرهم أنه رسول مِن الله، لا يريد منهم أجراً على هذا العمل:{إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ 178 فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 179 وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 178 – 180].
تطهير المجتمع من الأمراض الاجتماعية والاقتصادية:
بعد أنْ دعاهم إلى إصلاح الاعتقاد، وتطهير القلوب من الشرك، انتقل إلى إصلاح المجتمع وتطهيره من الآفات الاجتماعية والاقتصادية[1] التي تتهدد وجودهم ومصيرهم؛ فنهاهم عن التطفيف في الكيل والميزان، وبخس الحقوق الذي يمحق البركة، ويسلب النعمة، فضلاً عن عذاب الآخِرة: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْـمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85]. وقال: {وَإلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْـمِكْيَالَ وَالْـمِيزَانَ إنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} [هود: 84].
ثمَّ كرَّر هذه الوصية نظراً لخطورتها، ولكن جاءت بصيغة الأمر، فقال لهم آمِراً: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْـمِكْيَالَ وَالْـمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85]. ثمَّ نهاهم عن الصدِّ عن سبيل الله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85]. {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الأعراف: 86].
درجات الحوار التي استخدمها (شُعيْب) عليه السلام:
حاور سيدنا (شُعيْب) قومه بأروع ما جاد به اللسانُ العربيُّ من أساليب البيان، والتزام أدب الحوار وقواعده الـمُثلى؛ فاسـتخدم ألفـاظاً لطيفة، وكلمات تقطر مودةً وحناناً، لتأليف القلوب، وإزالة الحواجز النفسية، فخاطبهم بأسلوب النـداء: (يــا قــومِ) الـذي تكرَّر (6 مرات في سورة هود)، وكل نداء من هذه النداءات؛ يبني قاعدة، ويضع منهجاً، ويرسم طريقاً للدعاة، وقد جاءت على النحو التالي: {وَإلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84]. {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْـمِكْيَالَ وَالْـمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [هود: 85]. {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [هود: ٨٨]. {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} [هود: 89]. {يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ} [هود: 92]. {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إنِّي عَامِلٌ} [هود: 93].
هذا، وقد تدرَّج (خطـيبُ الأنبياء) مع قومه في أسلوب الدعوة؛ فبعدما خاطبهم بــ (أسلوب النــداء) في قوله {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84]، استخدم (أسلوب الأمــر) فحضَّهم على الاستغفار والتوبة: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ} [هود: 90]. ثمَّ استخدم (أسلوب النهي) فحذَّرهم من البغي والإفساد في الأرض {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا}. ثمَّ انتقل إلى (أسلوب التذكير) بِنِعَم الله وآلائه، مثل: كثرة النسل بعد القِلَّة، والغِنَى بعد الفقر، فقال: {وَاذْكُرُوا إذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ}. ثمَّ ذهب إلى (أسلوب المُحاجَجة) فقال: {قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: 85]. وفي هذا إشارة إلى المعجزات التي أجراها اللهُ على يديه، ولم يذكرها القرآنُ تفصيلاً، وإنْ كانت كلمـة {بَيِّنَةٌ} قد دلَّـت عليها إجمـالاً. ثمَّ اعتمد (أسلوب الإقناع) فقال: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف: 89]. ثمَّ لجأ إلى (أسلوب الترغيب) فقال: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [هود: 86]. ثمَّ مالَ إلى (أسلوب الإغــراء) لمد الجسور، وجرِّهم لسماع دعوته، فقال: {إنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ} [هود: 84]. ثمَّ استخدم (أسلوب التنبيـه) فدعاهم إلى الإخلاص، ومراقبة الله، فقال: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [هود: 86]. ومنه إلى (أسلوب التقرير): {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 188]. وخاطبهم بـ (أسلوب الشفقة) قائلاً: {إنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} [هود: 84]. ثمَّ خاطبهم بـ (أسلوب الاسترحام): {إنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90].
وقد بلغ غـاية الفصاحة ومنتهَى البلاغة؛ حين جمع بين أسلوب الاستفهام، والنفي، والتمنِّي، والرجاء في جملة واحدة: إذْ نجد (أسلوب الاستفهام) في قوله: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [هود: ٨٨]. ومنه إلى (أسلوب النفي): {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: ٨٨]. ومنه إلى (أسلوب التمنِّي): {إنْ أُرِيدُ إلَّا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: ٨٨]. وختم بـ (أسلوب الرجــاء) الذي جمع فيه بين التفويض والتوكُّل والإنابة، فقال: {وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: ٨٨].
لكن القوم بالغوا في عداوة نبيِّهم، فاضطرَّ (خطيبُ الأنبياء) إلى تغيير خطابه الدعوي؛ لعلَّه يُجدي نفعاً، فلجأ إلى (أسلوب الترهيب) قائلاً: {وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 86]. ومنهُ إلى (أسلوب التحذير): {لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِـحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} [هود: 89]؛ أيْ: لا تحملنَّكم مخالفتي وبُغضكم ما جئتكم به على الاستمرار في ضلالكم، فيحل بكم من العذاب ما حلَّ بالمكذِّبين من الأقوام السالفة.
ثمَّ لجأ إلى (أسلوب التوبيخ)، فقال: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: 92]. ومنه انتقل إلى (أسلوب التحقير): {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا} [الأعراف: 89].
ثمَّ تدرَّج صاعداً إلى (أسلوب التهويل والتخويف) فقال: {إنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: 92]. ولمَّا تمادوا في كُفرهم وعنادهم؛ لجأ إلى (أسلوب التهديد): {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود: 93].
ولمَّا بلغ الغباءُ بالقوم ذروته، واستعجلوا العذاب؛ اضطروا نبيَّهم إلى اللجوء إلى (أسلوب الاستنصار)؛ حيثُ تضرَّع إلى الله، مُستنصِراً إيَّاه على القوم المجرمين: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْـحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 98].
وقد هلكَ (أصحابُ الأيكة) وحلَّ بهم العذاب؛ فنعاهم نبيُّهم إلى أنفسهم، بــ (أسلوب التبكيت والتقريع) مِن أجل تثبيت الحُجَّة عليهم: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف: 93]. أيْ: قد أبلغتكم رسالات ربي، ونصحتُ لكم، وحرصتُ على هدايتكم بكل ما أستطيع، فلستُ بآسِفٍ عليكم ولا حزين.
ماذا كانت نتيجة عناد (أصحاب الأيكة)؟
لقد عذَّبهم بثلاثة أنوع من العذاب: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 91]. {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 94]. {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189]. أيْ: ارتجفتْ بهم الأرض، فهرولوا يميناً وشمالاً يصطرخون، ثمَّ تنزَّلت عليهم نار من السماء! وهذا لون من ألوان الإعجاز في التسلسل النزولي للقرآن[2] .
الخلاصـــة
يمكن الاستفادة من المنهج الدعوي الذي انتهجه سيدنا شعيب عليه السلام من عدة جوانب:
التدرُّج في الدعوة: فالداعية يبدأ بالقضايا الكبرى: كتصحيح العقيدة، ثمَّ ينتقل إلى ما دونها، وعلى رأسها: المشاكل والأزمات المحيطة بمجتمع المدعوِّين. وأنْ يتطابق كلام الداعية مع فعله، وأنْ يتحلَّى بالصبر الجميل، وأنْ يتسلَّح بالعلم والمعرفة، وأنْ يتزيَّن بالفصاحة والبلاغة، مستخدِماً كافة أساليب البيان التي يعرض من خلالها دعوته، كما رأينا مع سيدنا شُعيْب، إلى جانب التلوين في الخطاب الدعوي؛ إذْ رأيناه يُكرِّر الدعوة إلى (التوحيد) بأكثر من أسلوب، فتارةً يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 84]. وتارةً يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} [العنكبوت: 36]. كذلك: كرَّر الدعوة إلى طاعة الله بأكثر من أسلوب، فتارةً يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 179]. وتارةً أخرى: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْـجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 184].
أيضاً: التفنُّن في المجادلة، والبراعة في المحاورة، والردُّ بالأدلة والقرائن، والشواهد الحسية، والتذكير بالوقائع والأحداث المشاهدة.
أيضاً: التذكير بأنعُم اللهِ وأفضاله وآلائه، وأنَّه عنده حُسن الثواب، وخير المآل.
أيضاً: الجمع بين ترغيب المدعوِّين وترهيبهم لإقامة الحجَّة عليهم.
وقبل ذلك كله: الدعاء، والإخلاص، والاستعانة بالله، واليقين بأنَّ التوفيق بيده سبحانه.
[1] مع القرآن الكريم، محمود شلتوت، دار الشروق، القاهرة.
[2] ملاك التأويل، لابن الزبير الغرناطي، مكتبة الإيمان للنشر والتوزيع، القاهرة.
(المصدر: مجلة البيان)