جماعة كفتارو؛ من النّشأة إلى المأسَسَة المبكّرة
بقلم محمد خير موسى
على سفح قاسيون الذي تضع دمشق رأسها على كتفه يرتفع صرحٌ كبيرٌ اسمه “مجمّع الشّيخ أحمد كفتارو” يعدّ المركز الرّئيس للطّريقة النقشبنديّة الخالديّة التي تمثّلُ فاعلًا رئيسًا في الحياة الدّينيّة والمجتمعيّة السّوريّة عمومًا والدّمشقيّة على وجه الخصوص.
-
مولانا خالد ذو الجناحين
في القرن السّابع عشر إبان الدولة العثمانيّة ذات المشرب الصّوفي دخلت الطريقة النقشبنديّة إلى دمشق على يد الشّيخ محمّد مراد البخاري المتوفى سنة 1719م غير أنّها لم تحقّق حضورًا لافتًا ولا رسوخًا كبيرًا كالذي حقّقته على يد الشّيخ خالد بن حسين العثماني الذي يعدّ مجدّد الطريقة النقشبنديّة والمشهور عند أبناء التّصوف باسم “مولانا ذو الجناحين”.
الشّيخ خالد بن حسين العثماني كرديّ من بلدة قره داغ التابعة لمدينة السليمانيّة، انتقل في رحلات علميّة وصوفيّة شتّى حتّى بلغ الهند فأخذ الطريقة النقشبنديّة من إمامها الأكبر الشّيخ عبد الله الدّهلوي الذي منحه لقب “خليفة” في الطّريقة النّقشبنديّة.
وصل الشّيخ خالد دمشق عام 1822م ولم يعش فيها غير أربع سنوات إذ توفي بالطّاعون عام 1826م غير أنّه أحدث نقلةً نوعيّة في انتشار الطريقة النقشبنديّة من حيث الكيف إذ تبعه ثلّة من كبار العلماء في دمشق من أمثال مفتي دمشق الشّيخ حسين المرادي والشّيخ محمّد أمين بن عمر عابدين إمام الحنفيّة في عصره وصاحب الحاشية المعروفة “حاشية ابن عابدين” وهو الذي أمّ صلاة الجنازة على الشّيخ خالد، ومنهم الشّيخ محمّد بن عبد الله الخاني.
وكذلك من حيثُ الكمّ إذ عمل على توزيع مريديه في المساجد المختلفة من مدينة دمشق فاجتمعت حولهم شرائح واسعة من المجتمع وتلقّوا الطّريقة النّقشبنديّة التي غدت تنسبُ له أيضًا فعرفت باسم “الطّريقة النقشبنديّة الخالديّة”
-
إلى “آل كفتارو”
في نهاية القرن التّاسع عشر آلت خلافة الطريقة النقشبنديّة إلى الشّيخ عيسى الكردي المهاجر من ديار بكر إلى حيّ الأكراد في منطقة ركن الدّين بدمشق، وكان الشّيخ عيسى الكردي في نهاية القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين يمثّل المدرسة الصّوفيّة الطّرقيّة في الوقت الذي كان فيه الشّيخ بدر الدّين الحسني يمثّل المدرسة الصّوفيّة العلميّة أي مدرسة أهل الفقه والحديث.
في عام 1912م رزق الشّيخ محمّد أمين كفتارو وهو الكردي المهاجر من ماردين بمولود أسماه أحمد الذي ترعرع في كنف والد والتزم معه في حلقات الطّريقة
وقد أسهم الشّيخ عيسى في توطيد الطّريقة النّقشبنديّة في دمشق فكانت نخبة من رموز العلم الشرعيّ من تلاميذه منهم الشّيخ محمّد أبو الخير الميداني الرئيس الأوّل لرابطة علماء الشّام حين تأسيسها وهو زوج ابنتَي الشّيخ عيسى ومن أقرب المقرّبين إليه، ومن تلاميذه أيضًا الشّيخ محمّد عطا الكسم مفتي الشّام العام في زمانه، والشّيخ أبو الخير بن إبراهيم الغلاييني، وكان من أخصّ تلاميذه إليه الشّيخ محمّد أمين بن ملا موسى الكرديّ الشّهير بكفتارو، وقد أرسله ليتفرّغ للتدريس في جامع “أبو النّور” في ركن الدّين وبعد وفاة الشّيخ عيسى آلت خلافة الطّريقة إلى الشّيخ محمّد أمين كفتارو.
في عام 1912م رزق الشّيخ محمّد أمين كفتارو وهو الكردي المهاجر من ماردين بمولود أسماه أحمد الذي ترعرع في كنف والد والتزم معه في حلقات الطّريقة ليغدو شيخ الطريقة النّقشبنديّة الخالديّة وخليفة والده الذي توفي عام 1938م.
-
مأسَسَة الطّريقة
لم يتجاوز الشّيخ أحمد كفتارو في تحصيله التّعليميّ الرّسميّ المرحلة الابتدائيّة غير أنّه كان يتمتّع بالعديد من الصّفات التي أهّلته ليكون أكثر من مجرّد شيخ طريقة صوفيّة بل كان شخصيّة فاعلةً في الواقع السّوري على مدى أكثر من ستّين عامًا.
استطاع الشّيخ أحمد كفتارو أن يحقق انتشارًا أفقيًّا للطّريقة من خلال تنقّله لإلقاء الدّروس العامّة التي اتّسمت باللّغة المبسطة والتّركيز على مفاهيم التّزكية دون التّفصيل في القضايا العلميّة الشّرعيّة.
كما أنّه حقّق بناءً عموديًّا متماسكًا للطريقة من خلال تحويلها إلى بنيان هرميّ يحملُ سمات التّنظيم البسيط، وتحوُّل الطّريقة الصّوفيّة إلى بنية هرميّة ضمن هيكليّة تنظيميّة بسيطة يضمن لها تماسكًا كبيرًا لما يتحلّى به المريدُ من روح الجنديّة والامتثال والطّاعة بين يدي شيخه.
وبعد بناء الجماعة هرميًّا وتوسيع انتشارها أفقيًّا عمل الشّيخ أحمد كفتارو على بناء المؤسسات الخادمة للطّريقة فلم يقتصر على المسجد بل توجّه إلى بناء المؤسسات الإغاثيّة الوقفيّة لتحقيق التّمويل والمؤسسات التعليميّة لتحقيق التّأهيل.
كانت أولى تلكم المؤسسات “جمعيّة الأنصار الخيريّة” التي أسّسها كفتارو وبدأت عملها عام 1949م وإن كانت قد أشهرت بعد ذلك رسميًا عام 1959م، وكانت مهمّة هذه الجمعيّة رعاية الفقراء والمحتاجين كما أعلنت الجمعيّة ذلك في أهدافها، غير أنّ هناك هدفًا مهمًا كان لهذه الجمعيّة وهو تأمين التّمويل للمؤسسات القادمة التي تمثّلُ أذرعًا تعليميّة للطريقة والتي سيكون أوّلها:
-
معهد الأنصار
وهو معهدٌ تعليميّ انقدحت فكرته في ذهن الشّيخ كفتارو عقب زيارته إلى المدرسة العازاريّة في منطقة باب توما وهي مدرسة للرّاهبات، وقد رأى على جدرانها صور الشّخصيّات والقيادات السياسيّة التي تخرّجت في هذه المدرسة، فقرر افتتاح مدرسة عامّة لأنّ المعاهد الشرعيّة لا مستقبل لأبنائها في تسلّم المناصب الإداريّة في الدّولة.
وفعلًا بدأ المعهد باستقبال طلاب الصّف الأوّل الإعدادي والأول الثانوي ابتداء من العام الدّراسي عام 1949 ـ 1950م وتمّ إلحاقه بوزارة التربيّة التي عيّنت مديرًا منتدبًا لها عليه بينما عيّن الشّيخ أحمد سائر الكادر الإداري والتدريسيّ، وعيّن الشّيخ أسامة الخاني أحد مشايخ الطريقة موجّهًا مسؤولًا عن رعاية الطلاب والتّواصل معهم، واللّافت أنّ الشّيخ كفتارو خصّص في المعهد غرفة لعرض الصّور السينمائيّة وجهّزها بمذياع ومسجّلة، وهذا ممّا كان يستهجن في الوسط الشرعيّ عمومًا آنذاك.
-
معهد بدر
وفي عام 1965م أسّس الشّيخ كفتارو ثانويّةً عامّة للبنات على شاكلة ثانويّة الأنصار للذّكور وأسماها “معهد بدر” وهو مدرسة إعداديّة وثانويّة حرص فيها كفتارو على أن يكون الطّاقم العامل كاملًا من الإناث، وأوكل مهمّة إدارة هذه الثّانويّة إلى الآنسة إنصاف رمضان وهي من أبرز مريدات الشّيخ كفتارو وكانت الخريجة الجامعيّة الوحيدة آنذاك بين مريداته إذ حصلت على إجازة في الفلسفة من جامعة دمشق عام 1963م.
مأسسة الطريقة أخذت خطًا تصاعديًا متسارع الوتيرة ابتداء من عام 1971م عقب استلام حافظ الأسد مقاليد الحكم
وكان الشّيخ كفتارو يتابع أمور المعهد مع مديرته بشكل مستمر كما كان يعقد جلسةً جهريّة مع جميع المدرسّات والإداريّات في المعهد للاستماع منهنّ مباشرةً عن سير العمل فيه.
على أنّ مأسسة الطريقة أخذت خطًا تصاعديًا متسارع الوتيرة ابتداء من عام 1971م عقب استلام حافظ الأسد مقاليد الحكم، وسيكون هناك تفصيلٌ قادمٌ في هذا بإذن الله تعالى.
وهذا يبيّن لنا أنّ الشّيخ كفتارو لم يكن يريدُ لجماعته ومريدي طريقته أن يكون نشاطهم محصورًا في الحقل الدّعوي والمجتمع المتديّن فحسب بل أراد أن يكون لجماعته امتدادٌ داخل مؤسسات الدولة على المستويات المختلفة السياسيّة والإداريّة ومريدون في مراكز القرار المختلفة، وهي نظرةٌ تبيّن أنّ الرّجل كان يفكّر بأسلوبٍ مختلفٍ عن الأسلوب المشيخي التقليديّ، وقد استطاع أن يحجز لنفسه ولجماعته مكانًا في عالم التأثير السياسيّ والإداريّ فضلًا عن الاجتماعيّ عقودًا طويلة من تاريخ سوريا.
ولكن هل اجترح كفتارو خطابًا مخالفًا لما كانت عليه الجماعات الأخرى في دمشق جعله أقرب للنّظم السّياسيّة؟ وما هي قصّة معركته الانتخابيّة على منصب الإفتاء، وما حقيقة ما جرى في قضيّة ترشّح الدّكتور السّباعي؟
هذا ما سنجيب عنه ـ بإذن الله تعالى ـ في المقال القادم..
(المصدر: سوريا تي في)