مقالاتمقالات مختارة

جماعة كفتارو؛ صراعاتٌ وبراءاتٌ في حياة الشّيخ

جماعة كفتارو؛ صراعاتٌ وبراءاتٌ في حياة الشّيخ

بقلم محمد خير موسى

بصوته المتهدّج وبدنه المرتعش أعلن مروان شيخو ابن جماعة كفتارو للشّعب السّوري وفاة حافظ الأسد، ولم يكن من قبيل الصّدفة أبدًا أن يعلن هذا الخبر المفصليّ أحد أركان المؤسّسة الدّينيّة، فلا شيء متروك للصّدفة في دولة القبضة الأمنيّة التي ترتّب كلّ التّفاصيل.

وأمام جثّة حافظ الأسد المسجّاة في جامع ناعسة وقف شيخو مخاطبًا “الرّئيس المؤمن”: “لماذا لا تتكلم؟ أنت تسمعني الآن” كان هذا السّؤال يدور في خلد عامّة السّوريّين يومها؛ وبودّهم لو يستطيعون الوقوف أمام الجثّة ليسألوا الأسد: هل أنت ميّتٌ حقّا؟!

ثمّ قال شيخو جملته التي تعبّر عن الكثير: “لقد تعوَّدنا عليك يا سيدي؛ لقد تعوَّدنا عليك يا سيدي”.

كانت وفاة حافظ الأسد مؤذنةً بعهدٍ جديدٍ للمؤسّسة الدّينيّة على خلاف ما تعوّدته في حياة حافظ الأسد، وستتحوّل رتابة المشهد الدّينيّ في العقد الأخير من حياة حافظ الأسد إلى تغييراتٍ دراماتيكيّة في العقد الأوّل من عهد وريثه بشّار.

  • صراعٌ مستورٌ بعباءة الشّيخ

لا تكاد تخلو جماعةٌ دعويّة من خلافٍ بين أركانها بعد وفاة شيخها المحوريّ، غير أنّ خلافات جماعة كفتارو كانت سابقةً على وفاتِه بعقود.

وعموم الجماعات الدّعويّة القائمة على التّوريث الدّعوي من الشّيخ لأبنائه يتداخل فيها الشّخصيّ بالدّعويّ ويختلط فيها الأُسَريّ الضّيّق بالعام المفتوح.

تعود بدايات الصّراع إلى بداية السّبعينيات من القرن الماضي حيثُ عيّن الشّيخ كفتارو ابنه محمود “أبو الفضل” مديرًا للمجمع وقرّبه منه، واستطاع محمود بحنكته أن يستحوذ على والده ويبعد عنه بقيّة الأبناء، ويقدّم نفسه أمام والده وأمام أركان الجماعة على أنّه الوريث المستحق لمشيخة الجماعة من بعد والده.

في عام 1998م أعلن الشّيخ كفتارو طرد ولده محمود من المجمع بعد اقتناعه بسوء أمانته الماليّة وفساده الإداريّ

لكنّ هذا المشهد بدأ بالتّحوّل بعد وفاة زوجة الشّيخ كفتارو السّيّدة “حوّاء ملّلي” يوم الثّلاثاء الثّالث والعشرين من شهر كانون الثّاني “نوفمبر” عام 1991م، حيث بادر ابنه محمود ومعه الشّيخ رمضان ديب إلى اختيار زوجة الشّيخ الثّانية، فوقع اختيارهم على السيّدة صباح جبري “أم فادي” وهي من عائلة دمشقيّة معروفة؛ حيث استطاعت الزّوجة الجديدة أم فادي أن تؤثّر بشكلٍ واضح في قناعات الشّيخ تجاه استحواذ ابنه محمود على المشهد كما أسهمت في فتح الباب مجدّدًا لتقارب صلاح الدّين كفتارو مع والده.

في عام 1998م أعلن الشّيخ كفتارو طرد ولده محمود من المجمع بعد اقتناعه بسوء أمانته الماليّة وفساده الإداريّ، في حين يصرّ هو أنّ ذلك كان بمكيدةٍ مشتركة بين أخيه صلاح الدّين وزوجة أبيه “أم فادي”، وعيّن الشّيخ كفتارو مكانه بشكلٍ مؤقّت الشّيخ بشير الرّز في إدارة المجمع.

في تلك الفترة كانت تنمو مراكز قوى داخل الجماعة من أبرزها غسّان الجبّان نائب مدير المجمع الذي كان يسعى للعب دورٍ رياديّ بعد رحيل الشّيخ كفتارو، ومعه بسّام الصبّاغ الذي كان رئيسًا لفرع جامعة الأوزاعي في المجمع.

كان هناك تخوّف كبيرٌ من وصول صلاح كفتارو إلى رئاسة المجمّع والجماعة، حيث كان معروفًا عنه تحلّله من بعض التّقاليد الصّوفيّة للجماعة، إضافة إلى خلافه مع غسّان الجبّان حول قضايا متعلّقة بالمجمع والتّحالف مع محمود كفتارو وقد وصل الخلاف إلى درجة الاشتباك بالأيدي بينهما.

كان الشّيخ كفتارو حريصًا على أن يكون أحد أبنائه وريثًا له في رئاسة المجمّع ومشيخة الجماعة، وفي شهر آب “أغسطس” من عام 1999م عيّن الشّيخ كفتارو ابنه صلاح الدّين رئيسًا للمجمّع.

استطاع صلاح الدّين أن يقدّم صورةً جديدةً للمجمّع مختلفةً عن الصّورة الذّهنيّة التي تمّ ترسيخها خلال العقود الثّلاثة السّابقة، مستفيدًا من عدّة أمور ، أهمّها بداية عهد بشّار الأسد الذي قدّم وعودًا بالانفتاح تحت شعار “التّحديث والتّطوير”.

وعلى الرّغم من أنّ بشّار الأسد قد قلب ظهر المجنّ للمؤسّسة الدّينيّة فور استلامه للحكم، وبدأت بوادر موسمٍ مرّ المذاق لعموم الحالة الدّينيّة في سوريا غير أنّ صلاح الدّين كفتارو استطاع المناورة ضمن الخطوط العامّة المرسومة من النّظام غير أنّه تجاوز الخطوط المرسومة من الجماعة.

كما أنّه أفاد من قربه من والده وثقته به، ورغبة والده في إن يثبت ابنه صلاح الدّين نفسه ليكون قادرًا على رئاسة المجمّع ومشيخة الجماعة من بعده.

حاول صلاح الدّين إخراج المجمع من العباءة النَّقشبنديّة الخالصة إلى حدٍّ ما من خلال دعوة مشايخ المدارس الأخرى؛ فعلى سبيل المثال استطاع إقناع الدّكتور محمّد سعيد رمضان البوطي بإلقاء محاضرة في المجمّع بعد قطيعة دامت أكثر من ثلاثين سنة من الدّكتور البوطي لجماعة الشّيخ كفتارو، وكانت هذه المرّة الأولى التي يدخل فيها البوطي المجمع منذ تأسيسه على الرّغم من أن بيته لا يبعد عن مجمّع الشّيخ كفتارو إلّا أمتارًا قليلة.

كانت الخطوة الأكثر تعبيرًا عن هذا التَّحوّل الذي صنعه صلاح الدّين تكمن في استضافة الشّيخ يوسف القرضاوي في المجمّع والعمل على دخوله لسوريا وهو الممنوع من دخولها منذ عام 1972م، وذلك للمشاركة في “الملتقى الإسلاميّ الأوّل” الذي عقده مجمّع الشّيخ أحمد كفتارو في الثّاني عشر من شهر نيسان “إبريل” عام 2004م، وقد قال الشّيخ القرضاويّ يومها:

“إنها المرة الثالثة التي أزور فيها سوريا والمرة الأولى التي أزورها جهارًا نهارًا بعد أن زرتها مرتين متنكرًا متخفيًا، واحدة عام1952 والثّانية عام 1972”.

كان الصّبغة العامّة لضيوف الملتقى من خارج سوريا هي الصّبغة الإخوانيّة، فعمومهم ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، فبالإضافة للشّيخ القرضاوي كان من ضيوف الملتقى الدّكتور عصام البشير والشّيخ محمد العوضي والشّيخ كامل الشّريف.

كان المشهد يوحي بمحاولةٍ مصالحةٍ بين جماعة كفتارو وجماعة الإخوان المسلمين على الرّغم من غياب إخوان سوريا عن المشهد.

ومن المهم قوله في هذا الإطار: إنّ الكثير من أركان الجماعة لم ترُق لهم هذه الأنشطة لسببين: الأوّل؛ شعورُهم أنّ هذه الأفعال والبرامج تشكّل تهديدًا لهويّة الجماعة، فكيفَ يستضاف البوطي ـ على سبيل المثال ـ في المجمع وهم الذين يصدرون التّعميمات الدّاخليّة بأنّ من يحضر دروس أو خطب البوطي يفصل من المجمع ويطرد من الجماعة؟! وكيفَ يستدعى علماء ودعاة الإخوان الذين طالما حذّروا منهم طلّابهم في الحلقات إلى معقل الجماعة الرّئيس؟!

والثّاني: أنّ هذه القرارات لم تكن تتخذ بطريقة مؤسّسية، فقد كان صلاح الدّين يتّسم بالمركزيّة الإداريّة ويوصم منهم بالاستبداد في الرّأي وعدم اتّخاذ وزن لآرائهم وأفكارهم متسلّحًا بعباءة الشّيخ وإقراراته واقتناعه به، ممّا جعلهم ينظرون له على أنّه خطرٌ على الجماعة وخطر عليهم هم أيضًا.

وهذا جعل الصّراع في حياة الشّيخ مستترًا بعباءة الشّيخ كفتارو التي كانت تجمعهم ويتصارعون تحتها، وهو يؤسّس بطبيعة الحال لتفجّر الصّراع عقب رحيل الشّيخ الذي سيكون نقطةً فاصلةً في تاريخ الجماعة.

  • البراءة من محمّد حبش

من المواقف الفاصلة في تاريخ الجماعة البيان الذي أصدره الشّيخ أحمد كفتارو بالبراءة من أحد أبرز أبناء الجماعة وهو الدّكتور محمّد حبش.

نشأ محمّد حبش طفلًا في جماعة كفتارو وحفظ القرآن الكريم وهو في حدود العاشرة من عمره وجمع القراءات العشر، وكان له نبوغٌ بين أقرانه، وقد تبنّاه محمود كفتارو حين كان رئيسًا للمجمّع وقدّمه لوالده الشّيخ أحمد الذي توسّم فيه خيرًا وتنبّأ له بمستقبلٍ كبيرٍ في الجماعة.

تزوّج محمّد حبش من أسماء كفتارو ابنة محمود “أبو الفضل”، فغدا مقرّبًا من الجماعة كونه زوج حفيدة الشّيخ أحمد

غدا محمّد حبش خطيب جامع الزّهراء في المزّة، وهو قريب من المدينة الجامعيّة فكان محطّ استقطاب الكثير من شباب المدينة الجامعيّة وشباب دمشق لما تمتّع به من فصاحةٍ وقوّة خطابيّة.

تزوّج محمّد حبش من أسماء كفتارو ابنة محمود “أبو الفضل”، فغدا مقرّبًا من الجماعة كونه زوج حفيدة الشّيخ أحمد إضافة لما يملكه من المزايا الأخرى التي يتمتّع بها.

غير أنّ هذه المصاهرة أدخلته في أتون الصّراع بين والد زوجته محمود وعمّها صلاح الدّين، وغدا محسوبًا على محمود ومواقفه شاء ذلك أم أبى.

في الخامس من آذار “مارس” من عام 2003م كانت انتخابات مجلس الشّعب الأولى في عهد بشّار الأسد، وقد رشّح محمّد حبش نفسه لعضويّة البرلمان في قائمة محمّد حمشو التّاجر المعروف وابن صابر حمشو أحد الشّخصيّات البارزة في جماعة كفتارو والمقرّبين من الشّيخ كفتارو وموضع ثقته.

تفاجأ الجميع بالشّيخ أحمد كفتارو يطلب من الشّيخ أحمد راجح ـ أحد أهمّ أركان الجماعة ـ بعد انتهاء درس يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر شباط “فبراير” من عام 2003م أن يتلو بيانًا يعلن فيه البراءة من محمّد حبش وأفكاره الضّالّة المنحرفة، وتمّ تعميم البيان عقب ذلك موقّعًا من الشّيخ كفتارو قبل يومين من إعلانه في التّاسع عشر من ذلك الشّهر.

صحيحٌ أنّ البيان أعلن البراءة من أفكار محمّد حبش في كتابه “المرأة بين الشّريعة والحياة” ومقدّمة كتاب “المشترك أكثر ممّا تعتقد” غير أنّ صدوره قبل انتخابات مجلس الشّعب بأقلّ من أسبوعين يؤكّدُ أنّ المراد الأساسيّ من إصدار البيان في هذا التّوقيت هو محاولة قطع الطّريق إلى البرلمان على محمّد حبش، وقد نصّ البيان على ذلك إذ جاء فيه:

“إنّ الدّكتور محمّد حبش لا يمثّلنا مطلقًا لا في الانتخابات الحاليّة وما بعدها، ولا في أيّ مجالٍ آخر”.

يعكس هذا البيان صورةً من صور الصّراع التي كانت تتمّ خلف عباءة الشّيخ كفتارو بين أبنائه وأركان جماعته، وبعيدًا عن تقييم فكر الدّكتور محمّد حبش فهذا ليس موضعه؛ فإنّ البيان هو ثمرةٌ من ثمرات تلك المعركة التي ستظهر للعلن بعد وفاة الشّيخ كفتارو.

لم يفلح هذا البيان في إبعاد محمد حبش عن مجلس الشّعب، فقد نجح في الانتخابات إذ كان مدعومًا من أجهزة النّظام آنذاك التي كانت ترى فيه خليفةً لمروان شيخو الذي غادر الدّنيا عام 2000م.

كانت وفاة الشّيخ أحمد كفتارو نقطة فاصلة في تاريخ الجماعة، فما حقيقة الوصيّة التي كتبها الشّيخ كفتارو؟ وكيف بدأت المعركة الطّاحنة بين مريديه على خلافته؟ وما دور أجهزة أمن النّظام في ذلك؟ هذا ما سنجيب عنه بإذن الله تعالى في المقال القادم.

(المصدر: سوريا تي في TV)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى