جغرافية الفكر وإشكالية مفهوم العلمانية من العطاس شرقًا إلى المسيري غربًا
إعداد د. محمد القطاونة
على امتداد الرقعة الجغرافية في العالم الإسلامي تحدّث الكثيرون حول العلمانية ومفهومها، لما أعملته العلمانية في البناء التحتي للحقول المعرفية في العالم الإسلامي ولما أسهمت فيه من تقطيع الرقع المعرفية الإسلامية وفصلها عن بعضها، نستطيع القول بأن العلمانية شكلت زلزالاً وتمزقا للإبستمولوجيا المعرفية الإسلامية في جميع نواحيها، لذلك كانت مهمة العلماء المعاصرين الذين حملوا أدوات الرصد لفهم وتفكيك العلمانية واسسها المعرفية ومفهومها وأثرها على العالم الإسلامي. وأنه لا مناص من إعادة تعريف العلمانية انطلاقا من دراسة ما تحقق في الواقع بالفعل وليس من التعريف المعجمي، علي أن يحيط التعريف الجديد بمعظم جوانب الواقع الذي تمت علمنته.في ضوء هذا الواقع لا بد من استحضار نموذجين عميقين من بقعتين جغرافيتين مختلفتين لمحاولة الفهم والرصد العميق وتنوع الرؤى والأفكار التي تحلى بها النموذجين المطروحين، أما النموذج الأول فهو محمد نقيب العطاس من أرض الملايو الارخبيل في شرق أسيا وهو من استوعب العلمانية بقدر عميق من الفهم، بل أن الإمام العطاس لم يكتف بتفكيك مفهوم العلمانية فقط بل عمل على تأسيس المشروع النهضوي القادر على تفكيك العلمانية ذلك السرطان المتغلغل في جيوب المعرفة الإسلامية وإفرازاتها الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فراح يؤسس لإسلامية معرفية ترجع في طبقاتها وحقولها الى إنطلاق المعرفة الإسلامية من المفهوم العقدي، والتصور الإسلامي الصحيح للوجود وذلك من خلال كتابه العميق “مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية” . فيشير العطاس الى وجود إشكالية في مفهوم العلمانية ذاته فلا بد من تقديم بديل لمصطلح العلمانية أولاً وهذا يحتاج للشرح والافاضة ويحتاج الى الغوص في أسلمة الفكر، وأسلمة الفكر تحتاج الى أسلمة اللغة والمصطلح، لأن اللغة هي الوعاء الناقل للثقافة وهي أداة التعبير عن الحقيقة وعن وعي الإنسان ونظرته الخاصة للكون والحياة والوجود بأكمله، من هنا يرى العطاس أن المصطلح (secularism) لا يعبر عن دلالة العلمانية الحقيقية لأنه لا يحمل المعاني نفسها بالنسبة للمسلم، ويرى العطاس بان العلمانية التي يجب أن نؤكد عليها ونجليها اهتمامنا هي العلمانية في الإطار الفلسفي العميق وتصورها للوجود، وان علمنة الدول والحكومات هي تابع لهذه المنظومة الفلسفية، بل يرى العطاس بأن التصور القاصر حول العلمانية وإشاعة أن العلمانية تفصل بين ما هو علماني وما هو ديني غير موجود في السياق والفهم الإسلامي العميق لأن الإسلام لا يفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي، وهذا الإشكالية تكمن في نقل السياق الثنائي في العقل الغربي وتصوره، فأنتقل المصطلح وبما يحمل من سياق وإسقاطه على الفهم الإسلامي الذي أساسا لا يفهم هذه الثنائيات الغير موجودة في وعيه الإسلامي المنطلق من الوحي. لذلك يؤكد العطاس الى الالتفات إلى العلمانية الفلسفية التي يسميها (العلمنة) وتعني تجريد عالم الطبيعة من المعنى الروحي وتجريد التفكير الإنساني وسلوكه من القيم المقدسة. كما يؤكد على أن العلمانية بالمفهوم الغربي هي مسار تاريخي لا راد له تقريبا وهو الذي يتحرر بمقتضاه المجتمع والثقافة من الخضوع لوصاية الدين والأنساق الميتافزيقية المغلقة.
عندما كان العطاس يعمق الفهم في مصطلح العلمانية في دول شرق أسيا، ويُعمل أدواته الفلسفية في البيان والتوضيح، كان عبد الوهاب المسيري يفكك مفهوم العلمانية غربا. من خلال مماحكاته الطويلة مع العلمانية التي عاشها واقعا في حياته من خلال إقامته بالقرب من دوائرها المعرفية الغربية، وبالرغم من تباعد المكان إلا أن المسيري يطرح الفكرة نفسها التي قدمها العطاس ولكن بمصطلحاتها وتعميقها بشك أكبر، بل أن كتاب المسيري “العلمانية الشاملة والعلمانية والجزئية” يعتبر في تأثيره على الفكر في الثقافة العربية بمثابة كتاب (تهافت الفلاسفة) للغزالي لما أحدثه من انتصار على الفلسفة الغربية في عصره وتفكيك أصولها. بل وصل الأمر الى أن يصف الكُتاب العلمانيون الجدد كـ “مؤسسة مؤمنون بلا حدود” في حربهم على كتاب المسيري “العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية “بوصفه اعاقه حركة الاستنارة والحداثة في الثقافة العربية الإسلامية في مطلع القرن الواحد والعشرين.
فقد ذهب المسيري الى وضع تقسيمات للعلمانية في محاولة منه لوضع تصور لهذه الحالة في وصف العلمانية من خلال ارتكاز المسيري في تعريفه للعلمانية أولاً الى تقسيمها الى: شاملة للعالم ذات بُعْد معرفي (كلِّي ونهائي)، تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدِّين والمطْلَقات والماورائيات (الميتافيزيقية).
“ورؤية جزئية للواقع (إجرائية)، لا تتعامل مع أبعاده الكليَّة والنهائية (المعرفية)، ومن ثمَّ لا تتسم بالشمول، وتذهب في هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة، وربما الاقتصاد، وربما بعض الجوانب الأخرى من الحياة العامة، وهو ما يعبَّر عنه أحياناً بعبارة (فصل الدين عن الدولة)، ومثل هذه الرؤية تلزم الصمتَ بشأن المجالات الأخرى من الحياة، كما أنَّها لا تنكر بالضرورة وجود مُطلَقات وكلِّيات أخلاقية وإنسانية وربما دينية، أو وجود ما ورائيات وميتافيزيقا؛ ولذلك لا تتفرع عنها منظومات معرفية أو أخلافية…” كذلك انطلق المسيري من فكرة أساسية وهي “الواحدية المادية” المعتمدة على مركزية المادة والتي ينتفي معها وجود إله مفارق للمادة، وأن ثمة جوهراً، أو عنصراً واحداً في الكون تُرد إليه الظواهر كلها، مهما بلغ تنوعها، ألا وهي الطبيعة أو ” المادة” وأن العالم بأسْره مكوَّن أساساً من مادة واحدة، ليست لها أية قداسة ولا تحوي أيَّة أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف، ولا تكترث بالخصوصيات، أو التفرُّد أو المطلقات أو الثوابت، هذه المادة تشكِّل كلاً من الإنسان والطبيعة.
هاتان القراءتان للعلمانية على يد العطاس والمسيري تعتبران معرفة إنتاجية جديدة في فهم الحقل المعرفي للعلمانية وقراه تجديدية لمحاولة تفكيكها وفهما، وأن ما يتشكل على أرض الواقع أبعد ما يكون عن فصل الدين عن الدولة، وإنما هو أمر أكثر شمولا من ذلك. فآليات العلمنة لم تعد الدولة وحسب وإنما آليات أخرى كثيرة لم يضعها من وضعوا تعريف العلمانية في الحسبان، من أهمها الإعلام والسوق والدولة المركزية القوية. ومع هذا كله ظل التعريف القديم قائماً، ولذا حينما نستخدم لفظ “علماني” فهو لا يشير إلى الواقع وإنما للتعريف الذي تخطاه الواقع، ويدور الحوار بشأن العلمانية في ضوء التعريف القديم وليس في ضوء معطيات الواقع الذي تحقق. من ثم في ضوء هذه التعريفات الجديدة نستطيع وضع تصورات لمواجهة العلمانية على الصعيد الفكري والعملي. بل أن هذه القراءة التجديدية من شأنها بناء الوعي الإسلامي المعاصر بالإشكاليات التي تواجهها الأمة الإسلامية.
(المصدر: رسالة بوست)