جريمة عكا.. لماذا وضع سفاح نيوزيلندا تاريخ “حصار عكا” على بندقيته؟!
إعداد محمد شعبان أيوب
“عكا 1189م”، تاريخ ومدينة كتبهما مُنفّذ مذبحة المسجدين على سلاحه، فهو حين وضع على ماسورة البندقية اسم شارل مارتيل، إنما وضع اسم القائد العسكري الذي هزم قوات المسلمين في فرنسا، وأجلاهم عنها، وقتل قائدهم الأشهر عبد الرحمن الغافقي في موقعة “بلاط الشهداء”.
أما هنا، ومع تاريخ موقعة حربية عنيفة، وحصار صليبي طويل على مدينة عكا الساحلية في الشام، والذي استمر عامين كاملين ذاق المسلمون فيه أهوالا، فإن القاتل لم يحِد عن هدفه الذي قصده من وراء القتل، فالصراع مع الهوية الإسلامية هو الأساس والمنطلق في نظره، وسيادة الغرب على العالم الإسلامي تؤيدها -في نظره- هذه الهزائم العسكرية للمسلمين.
فما معركة “عكا 1189م”؟ ولماذا اتحدت القوى الأوروبية كافة على إعادة احتلال المدينة وعلى توجيه صفعة قوية لصلاح الدين الأيوبي، وردا على انتصاراته المدويّة التي كسرت التمدد الصليبي بعد معركة حطين؟ ولماذا فشل صلاح الدين في حماية المدينة من السقوط؟ وما نتائج هذا السقوط؟!
كان انتصار صلاح الدين الأيوبي في موقعة حطّين، واستعادة القدس وكامل الأراضي الفلسطينية، بل وكثير من المدن الساحلية الشامية من يد الصليبيين الذين احتلوها على مدار تسعين سنة، وذلك في عام 583هـ وما تلاها، كان له وقع الصدمة العامة في كامل القارة الأوروبية، حتى إن جوسلين، رئيس أساقفة مدينة صور حينذاك، ترك نشاطه الكنسي وهرول مسرعا إلى البابا أوربان الثالث الذي قدم له تقريرا وافيا بما حدث، وحقيقة موقف الصليبيين في بلاد الشام، وما هم فيه من الضعف والتشرذم، وأن صلاح الدين وقوات المسلمين ستستعيد المدن كافة التي احتلها الصليبيون؛ ولم تكن المسألة إلا مسألة وقت فقط.
لم يتحمل البابا أوربان الثالث وقع الهزيمة، فتوفي على إثرها في أكتوبر/تشرين الأول 1187م/ شعبان 583هـ، وحين ارتقى مكانه البابا جريجوري الثامن، بادر بإرسال كتبه ورسائله إلى أقوى ملوك أوروبا حينذاك، ملك إنجلترا، وملك فرنسا، وإمبراطور ألمانيا، يستحثّهم جميعا على أن يتناسوا ما بينهم من خصومات وحزازات ويبعثوا قواهم لمحاربة المسلمين[1].
وبالرغم من سُرعة وفاة البابا جريجوري الثامن في نهاية ذلك العام، فإن خليفته كليمونت الثالث حرص على استمرار المراسلات البابوية إلى هؤلاء الملوك والأباطرة يستحثّهم على الإعداد لحملات صليبية جديدة لإنقاذ ما تبقى لهم في الشرق، ولرد الصفعة قوية لصلاح الدين الأيوبي، والواقع أن الخلافات بين ملكي فرنسا وإنجلترا كانت عميقة للغاية حينذاك، بسبب الحروب الطويلة، والدماء التي سقطت بين الطرفين، ولم يكن من السهولة أن يصفو كلٌّ منهما لصاحبه ويتحدّا في مهمة واحدة تحت الصليب المقدس في بلاد الشرق البعيدة.
على أن إمبراطور ألمانيا فردريك بربروسا لم يتحمّل ما سمعه عن وقع الهزائم الثقيلة التي نزلت ببني جلدته في الشرق، وعن مقتل كبار الأمراء الصليبيين، وأسر المئات الآخرين منهم، لم يتحمل كل ذلك، ورأى أن الخلافات بين الإنجليز والفرنسيين عبث لا طائل من ورائه، بل هي أحد الأسباب في هزائمهم، فأسرع إلى العمل رغم كبر سنه، وتحرك في مايو/أيار سنة 1189م وبصحبته ابنه الثاني فردريك على رأس جيش ضخم بمقاييس ذلك العصر، قدّره بعض المؤرخين بمئة ألف محارب، سالكا الطريق البري من ألمانيا صوب المجر ومنها إلى القسطنطينية رغم العداء الكبير بين البيزنطيين والألمان حينذاك، والذين -أي البيزنطيين- قد أرسلوا من قبلهم رسالة سريعة إلى صلاح الدين يخبرونه فيها بأن ثمة حملة صليبية ألمانية قادمة بأعداد جرارة[2].
استعد صلاح الدين جيدا، وشكر للبيزنطيين حسن ودهم، وقرر إرسال السفراء، وإبرام اتفاقية مشتركة بين الجانبين، ومع ذلك تقدم بربروسا إمبراطور ألمانيا مخترقا الأراضي البيزنطية، ثم انتقل إلى الأناضول التي كان يحكمها سلاجقة الروم حينذاك، وسلطانهم قلج أرسلان الثاني بن مسعود السلجوقي، وقد حاول السلاجقة الالتحام بهذه القوات الصليبية الهائلة، لكن لم تفدها شيئا، وترتب عليها هجوم الصليبيين على العاصمة السلجوقية قونية، وإحراق أسواقها وخاناتها، وفي نهاية الأمر اضطر الجانب السلجوقي إلى طلب الصلح، وتقديم أدلاء (دلائل) للألمان في طرق الأناضول الوعرة والمتشابهة حتى يستطيعوا دخول بلاد الشام في أسرع وقت ممكن[3].
في نهاية الأمر، عبرت القوات الألمانية الأناضول ودخلت أراضي مملكة أرمينية الصغرى في مناطق طرطوس وأضنة وشمال أنطاكية، لكن بربروسا حين عبوره مع جيشه أحد أنهار تلك المنطقة قريبا من أضنة، غرق فجأة لكبر سنه، ولم يلبث أن انفلت زمام الجيش الألماني الكبير عند وفاة قائده، فاختل نظامه، وعجز فردريك الثاني بن بربروسا عن السيطرة على الجند، فتفرق الجنود هائمين على وجوههم، ووصلت بقية منهم إلى بلاد الشام في صورة تهكّمَ منها المسلمون أنفسهم، حملة “عِصي ورُكّاب حمير” على حد وصف المؤرخ المعاصر آنذاك جمال الدين بن واصل الحموي[4].
إذا كان القدر قد أنقذ بلاد الشام وقوات صلاح الدين من حملة عسكرية ضخمة غرق قائدها في أحد الأنهار، وتشتت في البلاد والبحار، فإن صلاح الدين قد وقع في تلك الأثناء في خطأ إستراتيجي كبير؛ حين وعد الصليبيين بعد هزائمهم بإطلاق سراح بعض كبار ملوكهم الذين وقعوا في أسره، وعلى رأسهم ملك بيت المقدس الصليبي جاي لوزجنان الذي أُسر في معركة حطين، فأرسلت إليه زوجته الملكة سيبل تتشفع صلاح الدين لإطلاق سراحه، وهو ما أوفى به في نهاية المطاف في يوليو/تموز 1188م، بل أفرج معه عن عشرة من كبار أمراء الصليبيين وفرسانهم ليكونوا بطانته عند رجوعه[5]!
تعهّد لوزجنان بداية الأمر أنه لن يرفع أمام صلاح الدين سيفا، ولن يُشهر العصيان، ولكن كما يقول المؤرخ سعيد عاشور: “ولكن ما أكثر ما وعد الصليبيون، وما أكثر ما نكثوا العهد، فإذا كان صلاح الدين قد تمسّك دائما بمبادئ الشهامة العربية في تصرفاته مع الصليبيين، فإن جاي لوزجنان الذي تعهّد بعدم محاربة صلاح الدين أو المسلمين وأقسم على أن يبرح بلاد الشام فور إطلاق سراحه، لم يلبث أن نزح إلى صور مؤملا أن يتولى زعامة القوات في حربها ضد المسلمين”[6].
ورغم ذلك فشل جاي في دخول مدينة صور التي كانت تابعة لأملاكه ضمن حدود مملكة بيت المقدس القديمة قبل استردادها من قِبل صلاح الدين الأيوبي، ومن هناك انطلق صوب مدينة طرابلس الشام واستطاع أن يجمع عددا من الفرسان الصليبيين المشردين، وأعادوا تنظيم صفوفهم من جديد، والتزموا طريق البحر المتوسط بعيدا عن أعين المسلمين وقوّاتهم، وقرر الجميع الاتجاه صوب مدينة عكا الإستراتيجية الساحلية للاستيلاء عليها من جديد، وكان صلاح الدين وقواته منشغلين حينذاك في حملة عسكرية ضد قوات الصليبيين الآخرين في منطقة الشقيف أرنون قرب الجولان، ولم ينتبه صلاح الدين لما يحدث إلا حين بدأ الصليبيون يحاصرون عكا بالفعل[7]!
وهناك بعض الروايات التاريخية الإسلامية التي تؤكد أن صلاح الدين ومخابراته كانت على علم بتحركات لوزجنان، وأنه أراد أن يحاصرهم عند مضيق في المنطقة الواقعة بين صور وعكا، لكنّ كبار أمرائه ومستشاريه عارضوه في ذلك وقالوا له إنه من الأفضل مهاجمة الصليبيين أمام عكا ليقعوا بين جيوش صلاح الدين من الشرق وحامية عكا الإسلامية في الغرب، وينقضّوا عليهم مثل الكماشة، لكن كان هذا خطأ إستراتيجيا ثانيا وقع فيه صلاح الدين ومستشاروه. يقول المؤرخ ابن الأثير في ذلك: “فلو أن العساكر اتبعت رأي صلاح الدين في مُسايرتهم ومعاملتهم، قبل نزولهم على عكا، لكان بلغ غرضه وصدّهم عنها، ولكن إذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه”[8].
أمر آخر كان في صالح الصليبيين حين بدأوا حصار عكا، فقد أُصيبت أعداد كبيرة من جيش صلاح الدين بوباء أدى إلى موت الكثير من الفريقين الصليبي والإسلامي، الأمر الذي اضطر معه صلاح الدين إلى الرجوع من موقعه تل كيسان إلى الخروبة، وكانت هذه الحادثة من أشد الأسباب لتقوية موقف الصليبيين، وتوسيع حصارهم على مدينة عكا التي كانت على شكل نصف دائرة ظهرها إلى البحر المتوسط، فشرع الصليبيون في حفر خندق من البحر إلى البحر، ونجحوا في ذلك بالفعل، وأصبحت المدينة الآن محاصرة من قِبل الصليبيين بصورة أقوى وأشد انتظاما من ذي قبل.
طال الحصار على أهل عكا وحاميتها الإسلامية بقيادة الأمير بهاء الدين قراقوش في داخل أسوار المدينة، وكان شتاء ذلك العام قد دخل، فاضطر معه صلاح الدين إلى البقاء في الخروبة بعيدا عن عكا، يرقب الوضع من خلال عيونه ومخابراته في عكا، ولجأ المسلمون آنذاك إلى استخدام الحمام الزاجل للاتصال المتبادل بين الفريقين، وإلى الرسائل المشفرة، حتى لجأ صلاح الدين في نهاية المطاف إلى أخيه العادل أبي بكر في مصر، طالبا منه المساعدة والمدد، فجاءه بالفعل في أواخر سنة 1189م على رأس الجيش المصري، الذي كانت تتميز قواته البحرية حينذاك بقيادة فذة تمثّلت في الأمير حسام الدين لؤلؤ صاحب الانتصارات البحرية على قراصنة الصليبيين في البحر الأحمر، وقد نجح لؤلؤ بواسطة الأسطول المصري المقدر بخمسين قطعة بحرية في الدخول واختراق مياه عكا، فأمدّ المدينة وسكانها بما تحتاج إليه من مؤن وغذاء وإمدادات، فضلا عن تدعيم قواتهم بفريق جديد من الأمراء والجنود بعُددهم[9].
ويشير عدد من المؤرخين إلى خطوة هذه المعركة التي كان السلطان صلاح الدين يتابعها على البر بقلق بالغ، حيث يقول ابن شداد مؤرخ صلاح الدين: “ولم يزالوا كذلك حتى وصلوا إلى عكا ليلة النصف من شعبان المذكور (585هـ) وقد فني الزاد، ولم يبقَ عندهم ما يُطعمون الناس في ذلك اليوم، وخرج عليها أسطول العدو يُقاتلها، والعساكر الإسلامية تشهدُ ذلك من الساحل، والناس في تهليل وتكبير، وقد كشف المسلمون رؤوسهم يبتهلون إلى الله تعالى في القضاء بتسليمها إلى البلد، والسلطان على الساحل كالوالدة الثكلى، يشاهد القتال ويدعو ربه بنصره، وقد علم من شدة القوم ما لم يعلمه غيره وفي قلبه ما في قلبه، والله يثبته، ولم يزل القتالُ يعمل حول البطس من كل جانب، والله يدفعُ عنها والريح يشتد والأصوات قد ارتفعت من الطائفتين، والدعاء يخرق الحُجب حتى وصلوا سالمين إلى ميناء البلد، وتلقاهم أهل عكا تلقي الأمطار عن جدب، وامتاروا ما فيها، وكانت ليلة بليال”[10].
ورغم ذلك، لم يتغير الموقف القتالي في أرض المعركة، وظل الصليبيون ثابتين، مُضيّقي الخناق على عكا وأهلها، فأرسل صلاح الدين رسائله إلى ملوك المسلمين وخليفتهم في الشرق والغرب، وجاءته بعض الإمدادات العسكرية بالفعل من أمراء الدولة الزنكية في الموصل والجزيرة وجنوب الأناضول ومن بغداد وغيرها، وفرح بهذه الإمدادات، وتناسى الخلافات السياسية التي كانت بين الفريقين فيما مضى، وحرص على الجانب المعنوي فأمعن في شحذ همم جنوده، وتقويتهم، لتحمل صعاب الحصار والمناوشات ضد الصليبيين، لكن في تلك الأثناء كانت بقايا الحملة الألمانية الفاشلة قد لملمت شتاتها، واستطاعت بقيادة الأمير فردريك السوابي ابن الإمبراطور بربروسا أن تصل إلى عكا، فكان لوصولها أثر معنوي إيجابي كبير على القوات الصليبية بقيادة لوزجنان، بل واستطاعوا القيام بهجوم على قوات المسلمين في عكا في أواخر سبتمبر/أيلول 1190م[11].
اضطر صلاح الدين إلى إقحام أسطوله مرة أخرى إلى المدينة بحريا؛ وبالفعل، نزلت قوات جديدة إلى المدينة بسبب التعب الكبير، والسهر وملازمة القتال المتواصل للقوات السابقة التي تحملت الحصار والحرب وقلة المؤن، لكن هذه العملية الخطيرة التي تمت في ظروف خطيرة جعلتها لا تتم على الوجه الأكمل، فقد كان المشرفون العسكريون من كبار الأمراء داخل عكا جملتهم ستون أميرا، لكن لم يحلّ محلهم سوى عشرين فقط، ويُرجع المؤرخ المعاصر لتلك الأحداث أبو شامة سبب سقوط عكا فيما بعد إلى هذا الخطأ الكبير في تنفيذ العملية، وإخراج الأمراء الكبار المدربين والعارفين بالأمور وإدخال عدد قليل مقابلهم[12].
كانت الحرب تراوح مكانها بين الفريقين طوال الأشهر الماضية، وكانت أيضا تهدأ أحيانا نتيجة النزاع الصليبي الداخلي على الزعامة بين جاي لوزجنان ومنافسيه وعلى رأسهم كونراد دي مونتفرات الرجل الذي كان يعمل بجدّ كبير لإعادة استرداد بيت المقدس، وهزيمة صلاح الدين، وكانت تقف خلفه جموع كبيرة من بقايا الصليبيين الذين رأوا فيه كفاية وقدرة عسكرية وسياسية كبيرة، وبينما الجميع يتصارع على الزعامة الصليبية في الشرق كان أكبر ملوك أوروبا يُبحرون في البحر المتوسط قادمين على رأس حملة صليبية كبيرة لهزيمة صلاح الدين.
على الضفة الأوروبية، وبعد محاولات بابوية عديدة لرأب الصدع بين فرنسا وإنجلترا، توحد الطرفان أخيرا بزعامة ملك إنجلترا ريتشارد المشهور بـ”قلب الأسد” لما عُرف به من شجاعة، وبين ملك فرنسا فيليب أُغسطس، وقد أبحر الرجلان على رأس أساطيل قوية، والتقى كلاهما في جزيرة صقلية في منتصف الطريق حيث بقي للراحة في فصل شتاء ذلك العام 1190م، وبعد ذلك أبحر فيليب أغسطس في مارس/آذار 1191م ليصل إلى مدينة صور التي استقبله فيها كونراد دي مونتفرات استقبالا حافلا، ومن ثم اتجه كلاهما إلى عكا فوصلاها في أبريل/نيسان من العام نفسه.
كان وصول فيليب أغسطس ملك فرنسا أولا على رأس هذه الحملة العسكرية الهائلة، وقع الصدمة والقلق في نفوس المسلمين، ووقع الابتهاج والفرحة في نفوس الصليبيين؛ ذلك أن فيليب كملك لفرنسا كان أعظم الملوك، وأقواهم سطوة على كافة الأمراء الصليبيين المتصارعين في المشرق، فأصبح هو صاحب الحل والعقد، والكلمة النافذة الأخيرة في كل ما يجري، وسرعان ما توحّد الجميع حوله، وبدأوا في إعادة الحصار الخانق المصاحب بهجوم المنجانيقات وما يشبهها من آلات الحصار والحرب، وعانت الحامية العسكرية داخل عكا معاناة هائلة في دفاعها عن المدينة، في حين أن بعض الأمراء الذين جاءوا لدعم صلاح الدين مثل أمير الموصل وأمير سنجار قررا الانفصال والرحيل بحجة طول المقام، وتبرم الجند[13]!
وسرعان ما وصل ريتشارد قلب الأسد ونزل مع قواته على السواحل الشامية في 6 يونيو/حزيران من ذلك العام نفسه، واتجه صوب عكا فوصلها بعد يومين، وعندئذ ازداد الصليبيون قوة على قوتهم، وساء موقف الحامية الإسلامية داخل المدينة، واضطر صلاح الدين أمام قوة الصليبيين الهائلة، وهجومهم المستمر والضاغط على عكا، أن يصرفهم بالهجوم من قبله، لكنّ الصليبيين عاجلوه بالهجوم في موقعه دون أن يسفر القتال عن شيء، وأمر صلاح الدين بتعبئة سفينة كبيرة من بيروت وشحنها بالآلات والأسلحة والمؤن والرجال لإمداد حامية عكا، ولكن السفينة ما إن وصلت قرب عكا حتى حاصرتها سفن الأسطول الإنجليزي، ورغبة منهم في ألا يقعوا في الأسر، وبعد قتال مرير ضد أربعين سفينة أخرى غرقت سفينتهم التي كانت تحمل ستمئة وخمسين جنديا[14]!
أعاد الصليبيون هجومهم بصورة أشد في شهر يوليو/تموز 1091م، وكانت الحامية العسكرية داخل المدينة قد شارفت على الانهيار، وأرسلت أخيرا إلى صلاح الدين الأيوبي رسالة جاء فيها: “إنا قد بلغ منا العجز إلى غاية ما بعدها إلا التسليم، ونحن في الغد ثامن الشهر (جمادى الأولى سنة 587هـ) إن لم تعملوا معنا شيئا نطلب الأمان، ونسلم البلد”[15].
وحاول من جانبه صلاح الدين الضغط بكل ثقله على الصليبيين الذين كانوا أفضل استعدادا وقوة بحكم مواقعهم وتحصيناتهم، ولم تفد هذه الهجومات بشيء، واضطر أخيرا قائدا الحامية العسكرية الإسلامية في عكا الأمير بهاء الدين قراقوش والأمير سيف الدين المشطوب الكُردي إلى الاستسلام، وذهب الأمير المشطوب بنفسه إلى المعسكر الصليبي لمقابلة ملك فرنسا والاتفاق معه على شروط التسليم، واضطر السلطان صلاح الدين أن ينيب أخاه العادل في هذه المفاوضات، لكن في نهاية المطاف، واستغلالا للموقع والتحصن والقوات والتقدم، تفاوض الصليبيون بقيادة كونراد دي مونتفرات مع حامية عكا دون موافقة صلاح الدين، وقد نصت هذه الاتفاقية على السماح للمسلمين بالخروج من المدينة مقابل فدية قدرها مئتا ألف دينار، وتحرير ألفين وخمسئة من أسرى الصليبيين، فضلا عن رد صليب الصلبوت[16]، وهو الصليب الذي كان المسلمون قد استولوا عليه حين أعادوا بيت المقدس، ويعتقد الصليبيون أنه الصليب الذي صُلب عليه المسيح عليه السلام وفق اعتقادهم.
ترتب على سقوط عكا سقوط أرسوف ويافا، وكان نصرا كبيرا أعاد الروح المعنوية والأفراح والبهجة في العالم الغربي
وفي نهاية المطاف، وبعد عامين كاملين من الحصار والمقاومة للحامية الإسلامية، دخل الصليبيون عكا في يوليو/تموز 1191م/17 جمادى الآخرة 587هـ، الأمر الذي أثار حالة من الغم والحزن العارم في صفوف المسلمين شرقا وغربا، صحبه كعادة الصليبيين غدرهم بوعودهم، ونقض لشروط الصلح، فراحوا يأسرون آلافا من المسلمين بل وقتلوا المئات منهم غدرا وحقدا، وفي ذلك يقول المؤرخ المعاصر آنذاك أبو شامة: “وعظمت المصيبة على المسلمين، واشتدّ حُزن الموحّدين، وانحصر كلام العُقلاء من الناس في: إنا لله وإنا إليه راجعون. وغشي الناس بهتة عظيمة، وحيرة شديدة، ووقع في العسكر الصياح والعويل والبُكاء والنحيب”[17].
أما المؤرخ بهاء الدين بن شداد كاتب سيرة السلطان صلاح الدين، والشاهد على معظم معاركه ضد الصليبيين، فيقول: “وطلب منهم إطلاق المسلمين فلم يجيبوا إلى ذلك، فعلم منهم الغدر، واستمر أسر المسلمين، ثم قتل الإفرنج منهم جماعة كثيرة واستمر الباقون في الأسر”، وترتب على سقوط عكا سقوط أرسوف ويافا، وكان نصرا كبيرا أعاد الروح المعنوية والأفراح والبهجة في العالم الغربي.
تلك هي حكاية عكا 1189م التي كتبها القاتل الإرهابي على بندقيته، إشارة إلى هزيمة المسلمين المفجعة زمن السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، والتي فقدوا على إثرها آلاف الأسرى والقتلى، وعددا من أهم المدن الساحلية في فلسطين، وهي عكا ومن بعدها أرسوف ويافا، وهي حادثة كان إبرازها مقصودا بالتأكيد!
(المصدر: ميدان الجزيرة)