جذور أزمة الدولة الإسلامية المعاصرة.. تاريخ ومفاهيم
قراءة أحمد الدَبَشْ
ثمة سؤال مهم يطرح نفسه بقوة، عند الحديث عن مفهوم الدولة في نظر حركات الإسلام السياسي: هل تتفق الحركات الإسلامية المعاصرة، بمختلف تياراتها،على تصور واحد “للدولة الإسلامية”؟ وما هي الأسس النظرية التي تعتمد عليها للتأصيل الفقهي والنظري والفكري لرؤيتها حول الدولة؟
في هذا الإطار يأتي كتاب “إشكالية الدولة الإسلامية.. تصور الحركات الإسلامية المعاصرة”، للباحث معين محمد الرفاعي، (بيسان ـ بيروت، ط1، 2017).
يقع الكتاب في 709 صفحة، من الحجم المتوسط، ويتألف الكتاب من مقدمة، وتمهيد، وثمانية فصول، وخاتمة.
يقول الدكتور محمد سليم العوَّا، في تقديمه للكتاب: “قضية تصور الدولة الإسلامية، عند الحركات الإسلامية المعاصرة، قضية محورية، في العمل السياسي لهذه الجماعات. وما كان لها، أن تكون كذلك لولا، أن دولة الجامعة الإسلامية (الخلافة)، قد أسقطت على يد مصطفي كمال أتاتورك سنة 1924م، ومن يومها تفرقت (الدولة الإسلامية) إلى دول عدة، قطرية في الغالب، غريبة التكوين، والوسائل، والممارسات، في الأغلب الأعم. وانحصر دور الإسلام، في تلك الدول كلها ـ أو جُلِّها ـ في العبادات الفردية، والجماعية، وفي قوانين الأسرة، والمواريث، وما إليها” (ص 13).
تمهيد: جذور أزمة “الدولة الإسلامية” حديثاً
يقول المؤلف: “ترتبط أزمة الدولة الإسلامية المعاصرة بالأحداث التي عصفت بـ (الخلافة الاسلامية)، إبان، وبعد الحرب العالمية الأولى، ولا سيما القرار الذي اتخذه مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء الخلافة(…) (إن إلغاء الخلافة) أوجد مجموعة من الإشكالات، أبرزها تلك المرتبطة بالتغريب، والعلمانية، والقومية” (ص 33).
يحاول المؤلف، قراءة جذور أزمة (الدولة الإسلامية) بإطلالة تاريخية عن “انهيار السّلطنة العثمانية، بصفتها آخر كيان سياسي مثل العالم الإسلامي، أو جزء كبير منه على الأقل، وما رافق ذلك الانهيار من صراعات وتجاذبات، تعتبر ضرورية لتحديد الإطارين الزماني ـ المكاني من جهة، والتاريخي ـ السياسي من جهة ثانية، لأزمة (الدولة الإسلامية في تصور الحركات الإسلامية المعاصرة)” (ص 66).
الفصل الأول: “الدولة الإسلامية” في تصور جماعة الإخوان المسلمين
يتناول المؤلف في هذا الفصل، موقف جماعة الإخوان المسلمين من الدولة الإسلامية، فـ “لا يلزم الإخوان المسلمون أنفسهم، في شكل محدّد للدولة الإسلامية، أو بصورة أدق: لا يلزمون أنفسهم بالشّكل التاريخي للسّلطة في الإسلام، الذي عُرف بنظام الخلافة؛ بل يرون أن أي شكل يحقق الأهداف الإسلامية العامّة، هو إسلامي، بغض النظر عن مصدره، ومشروعيته التاريخية” (ص 70).
ويعرج المؤلف، على أقوال أبرز مفكري جماعة الإخوان المسلمين، ولاسيما حسن البنا، مؤسس الجماعة، ومرشدهم الأول (ص 70 ـ 72). وسيد قطب (ص 72). وعبد القادر عودة، أحد قادة الإخوان المسلمين الأوائل، وأحد أبرز مسؤولي الدعوة في التنظيم (ص 73). ومصطفى مشهور، المرشد الخامس (ص 74).
يبحث المؤلف، في النصوص المؤسسة للحكومة الإسلامية، وشرعيتها عند أبرز مفكري الإخوان المسلمين، وقواعد الحكم فيها، ونظرة الجماعة إلى الخلافة. (ص 74 ـ 120). ويتعرض للطبيعة المدنية للدولة الإسلامية (ص 120 ـ 126). والموقف من الدستور والبرلمان (ص 126 ـ 145). ومسألة الديمقراطية (ص 145 ـ 153). والحريات العامة (ص 153 ـ 158)، والتعددية الحزبية (ص 158 ـ 165)، والمشاركة في الحكم (ص 165 ـ 168)، ووسائل التعبير (ص 168 ـ 172)، واستخدام العنف (ص 172 ـ 175)، والمفاصلة (ص 175 ـ 178).
ويوجز المؤلف، تصور (الدولة الإسلامية) عند الإخوان المسلمين، على الشكل التالي:
1 ـ أن الخلافة هي الأصل (…).
2 ـ أن نظام الخلافة هو نظام تاريخي، وليس نظاماً دينياً (…).
3 ـ أن الإسلام كان سبّاقاً إلى مفهوم الدّولة الحديثة (…).
4 ـ أن الدّولة في الإسلام ذات مميزات عصريّة، فهي دولة: دستورية ـ برلمانية ـ مدنية (؟) ـ ديمقراطية.
5 ـ أنّ الدولة الإسلامية، تحترم، وتحمي حقوق الأقليات، وتكفل حقوق الإنسان كافة، وفي مقدمتها حرية المعتقد، وحريّة الرّأي، والتعدديّة الحزبيّة.
6 ـ أنّ طريق الوصول إلى هذه الدولة يمرّ بالتربية، ابتداء من تربية الفرد، ثم الأسرة، ثم المجتمع، وصولاً إلى إقامة الحكومة الإسلامية، وثم إقامة الحكومة الإسلامية، وثم إقامة الخلافة، وتبليغ دعوة الله إلى العالم.
7 ـ أنّ من أهمّ مهمات الدولة الإسلامية، أن تمثل الإسلام تمثيلاً رسمياً، على المستوى العالمي. (ص 184 ـ 185).
الفصل الثاني: “الدولة الإسلامية”، في تصوّر الجماعة الإسلامية في باكستان
يبدأ المؤلف، حديثه بلمحة تاريخية، عن فكرة إنشاء باكستان (ص 189 ـ 196). ويتناول المؤلف (الدولة الإسلامية)، في تصوّر (الجماعة الإسلامية في باكستان)، ولا سيما لدى مفكرها الأبرز أبي الأعلى المودودي، فقد عاد المودودي إلى لاهور، بعد أن صارت باكستان حقيقة واقعية في (27 رمضان 1366 هــ/ 14 آب / أغسطس 1947)، كانت باكستان بنظره “دولة للمسلمين، وليس للإسلام، وبناءً على ذلك، باتت أسلمة هذه الدولة، وتطبيق الشريعة الإسلامية فيها، هي الشغل الشاغل للمودودي، وللجماعة الإسلامية عموماً، في كلّ الفترات التاريخية اللاحقة”. (ص 197).
ويناقش المؤلف بالتفصيل مفهوم (الحاكمية) عنده، فقد كان الإنتاج الفكري للمودودي يتمحور “حول (الدولة الإسلامية)، ولا سيما في فكرة رئيسية واحدة، هي: (طبيعة الدولة الإسلامية)، التي تشكل فكرة (الحاكمية) جوهرها (…) تأثر أحد أبرز مفكري الإخوان المسلمين، سيد قطب، بفكر المودودي، إذ اقتبس عنه فكرتي (الحاكمية) و(الجاهلية) (….) ولكن أجبرت أفكار المودودي، المرشد الثاني للإخوان، حسن الهضيبي، على التصدّي لها، والردّ عليها، في كتابه الشهير (دعاه لا قضاة)” (ص 199).
وللإهمية الخاصة لأفكار المودودي، في دراسة تطوّر تصوّر (الدولة الإسلامية) لدى الحركات الإسلامية في العصر الحالي، يناقش المؤلف أفكار المودودي هذه، تحت عنوان (الحاكمية) و(الخلافة). فــ”(الحاكمية) عند المودودي، ليست مسألة سياسيّة بحتة، بل مسألة عقيدية تتعلق بها قضايا التوحيد، والشرك” (ص 205). و”يحدد المودودي مفهوم (الخلافة)، بالمعنى السّياسي. فهو ينظر إلى الخلافة من زاوية الحاكمية، لا العكس(…) وبهذا المعنى، تصبح (الخلافة) وجهاً لازماً من أوجه (الحاكمية)، وامتداداً لها. و(الخلافة) بهذا المعنى، لا تستحق اسمها إلا بقبول (حاكمية) الله تعالى ” (ص 206). وعليه، “يحدّد المودودي لدولة الخلافة غايتين ينبغي أن تعمل على تحقيقهما، إحداهما: إقامة العدل، في حياة البشر، والقضاء على الظلم، والجور، وإفناؤه، والأخرى: بناء نظام (إقامة الصلاة) و(إيتاء الزكاة) عن طريق ما تملكه الحكومة من طاقة، ووسائل؛ وهو النظام الذي يشكّل حجر الزّاوية في الحياة الإسلامية، وأن تنشر الدولة الخير والبرّ، وتأمر بالمعروف، وهو الغرض الأصلي من مجيء الإسلام إلى الدنيا” ( ص 207).
هذه القراءة الأيديولوجية التي يقدمها المودودي، بحسب المؤلف، ترتبت عنها جملة من النتائج التي ينبغي الوقوف عندها، وهي “المُماهاة بين إقامة دين الله، وإقامة الحكومة الإسلامية، وإقامة النظام الإسلامي. (…) لم يتوان واضعو دستور الجماعة على التّصريح بتماهي هذه المفاهيم” (ص 208).
يشير المؤلف إلى كتاب (المصطلحات الأربعة في القرآن الكريم)، لأحد مؤسسي الجماعة الإسلامية، وهو أبو الحسن الندوي، للرد على المودودي. (ص 210 ـ 213). ويناقش المؤلف، (خصائص الدّولة الإسلامية)، في كتابات أبو الأعلى المودودي، في أكثر من كتاب، بما ينسجم مع نظريته في (الحاكمية)، ومنها كتاب (نظرية الإسلام السياسية) (ص 218 ـ 219)، وكتاب (الخلافة والمُلك) (ص 219 ـ 222). وكتاب (كيف السبيل إلى وحدة الأمم الإسلامية) (ص 223 ـ 226).
وحول طبيعة الخلافة الإسلامية، يقول المؤلف: “يخلص المودودي من نقاشه للعلمانية، والقومية، والديمقراطية بالإعلان أنّ هذه (المبادئ الثلاثة خاطئة فاسدة). وعليه، يطرح مبادئ ثلاثة بديلة:
1 ـ إنّنا نقدم مبدأ التّسليم لله، وطاعته، بديلاً عن العلمانية.
2 ـ ونقدّم مبدأ الإنسانية العالمية، بديلاً عن القومية المحدودة الضيّقة.
3 ـ ونقدّم مبدأ سيادة الله، وخلافة المؤمنين، بديلاً عن مبدأ سيادة الشّعب، أو حاكميّة الجماهير”. (ص 230 ـ 231).
يناقش المؤلف، الجهود التي بذلها المودودي، في سبيل وضع دستور إسلامي لباكستان الوليدة، فيقول: “يحدّد المودودي حدود وضوابط السّلطات التنفيذية، والتشريعة، والقضائية. فسلطات الهيئة التنفيذية لا بدّ وأن تكون محدودة بحدود الله.. علاوة على أن هذه الهيئة التنفيذية لا بدّ وأن لا تتأسَّس إلا عن طريق الشّورى ـ يعني الانتخاب ـ والشّورى فحسب؛ كما ولا بدّ وأن تؤدي عملها أيضاً بالشورى” (ص 236).
يضيء المؤلف على “طبيعة العقبات التي رافقت وضع الدستور الإسلامي لدولة باكستان، ويطلعنا على تجربة أحد أبرز المشاركين في وضعه، وهو محمد أسد(…) وقد وضع كتاباً أسماه (منهاج الحكم في الإسلام)، هو تطوير لرسالة كان قد كتبها في (جمادي الأولى 1367 هــ/ آذار / مارس من عام 1948)، بعنوان: (بناء الدّستور الإسلامي)” (ص 250).
يقول المؤلف: إن هذه الإشكاليات، “تُبرز بوضوح عمق الأزمة، التي يواجهها الفكر السياسي الإسلامي المعاصر: أزمة تطويع هذا الفكر لمقتضيات (الدولة الحديثة) ومتطلباتها” (ص 254). ويتساءل المؤلف: “هل لبّى الدّستور الباكستاني تطلعات المودودي، وعكس أفكاره في الحاكمية، ونظريته السياسية؟ بالطبع تقتضي الإجابة على هذا السؤال السابق الاطّلاع على الدّستور” (ص 257).
بعد أن تطرق المؤلف إلى قضايا (الحريات وحقوق غير المسلمين)، و(وسائل التغيير)، يستخلص المؤلف القول: “لقد فوّت المودودي فرصة سانحة لمراجعة نظريته السياسية القائمة على (الحاكمية)، وما أدّت إليه من تماهى (الدين) و(الدولة)، فوقع في شراك النظرية الغربيّة، وفتح باباً واسعاً أمام أسلمة التّغريب”، (ص 292). فــ”أهمية نقاشات المودودي، تكمن في أنها أنارت الكثير، من النقاط التي يختلف فيها جوهر الاجتماع السياسي في الإسلام عمّا هو غربي. وبغضّ النظر عمّا توصّل إليه المودودي، إلا أنّه استطاع أن يحدّد بدقة ما لا يتوافق مع طبيعة الإسلام من الناحية السياسية، وإن لم يستطع أن يقدّم بديلاً خالياً من الشوائب. وهذا وحده يكفيه شرفاً ورفعة” (ص 294).
الفصل الثالث: “الدولة الإسلامية”، في تصوّر “حزب التّحرير”
يتناول المؤلف، “الدولة الإسلامية”، في تصوّر “حزب التّحرير”، ولا سيما عند مفكريْه الرئيسيين: تقي الدين النّبهاني، وعبد القديم زلّوم. ينقل المؤلف عن النّبهاني، “أن السعي إلى إقامة الدّولة الإسلامية، واجب ديني، بل (من أهم الواجبات) على المسلمين” (ص 298). و”الخلافة، من وجهة نظر (حزب التحرير)، هي: رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدّنيا، وهي عينها الإمامة، فالإمامة، والخلافة بمعنى واحد، وهي الشّكل التي وردت به الأحكام الشرعيّة لتكون عليه الدولة الإسلامية” (ص 299).
يتطرق المؤلف إلى شرعية الخلافة وصفتها (ص 300 ـ 309). وقواعد الحكم (309 ـ 312)، والخليفة، ومنصبه، وتقييد صلاحياته (ص 312 ـ 321)، ومجلس الأمة (ص 321 ـ 323)، والشورى (ص 323 ـ 327)، والحريات العامة (ص 328 ـ 330)، وحقوق غير المسلمين (ص 330 ـ 332)، والسياسة الخارجية (ص 332 ـ 333)، ومنهج التّغيير وطلب النصرة (ص 333 ـ 336)، وطبيعة الدولة لدى حزب التحرير الإسلامي (ص 337 ـ 338).
يحدثنا المؤلف، عن إشكاليّة متعدّدة الأوجه في العلاقة بين “(الخليفة)، و(السّلطة)، و(الأمّة)، و(السّيادة)، و(الشّرع). فالدور المنوط بالأمّة يقتصر على انتخاب خليفة، وطاعته ظاهراً وباطناً. ومع أنّ لها حق مساءلته والتظلّم ضدّه، إلا أنّها لا تملك حق عزله؛ ومدة خلافته غير محدودة. وهذا مع أنّ العلاقة بين الأمّة والخليفة هي عقد مراضاة، لكن يبدو أنها تقتصر على البيعة فقط؛ فالخليفة يحكم وفق رؤيته واجتهاده، وما يتبنّاه من أحكام يصبح هو الأحكام الشرعية، لا غير” (ص 338).
الفصل الرابع: “الدولة الإسلامية”، في تصوّر “حركة النهضة” في تونس
يتناول المؤلف “الدولة الإسلامية”، في تصوّر “حركة النهضة” في تونس، ولا سيما عند مفكرها الأبرز راشد الغنوشي، يقول المؤلف: “تختلف مقاربة مفهوم الدولة الإسلامية لدى حركة النهضة في تونس، التي تأسسست عام 1972، عن مقاربة جماعة الإخوان المسلمين لها، وفق ما يقدّمه مفكر الحركة الأبرز، راشد الغنوشي.
وبحسب المؤلف، يغيب لدى الغنوشي، في كتاباته كافّة، أيّ تأصيل شرعي لإقامة الدولة الإسلامية” (ص 343)، فينحو الغنوشي، “نحو تعزيز فكرة (الضرورة الاجتماعية)، ونفي (الوجوب الديني) لإقامة الدولة في الإسلام” (ص 345 ـ 346).
تنبع أهميّة الغنوشي، بحسب المؤلف، من كونه أحد قادة الحركة الإسلامية القلائل، الذين يقولون إنّ الدولة ضرورة اجتماعية إنسانية، وإنّ إقامتها ليست فريضة دينية” (ص 347).
يتطرق المؤلف إلى (قواعد الحكم)، في كتابات الغنوشي، ويخلص إلى القول: “هكذا فصّل الإسلام في العلاقة بين الدولة والقانون، فجعل التزام أحكام القانون أساساً لمشروعية الدولة، وجعل الحاكم في ما يتخذه من قرارات، وإجراءات وفي ما يصدره من أوامر مقيّداً بأحكام الشريعة الإسلامية، أي بأحكام القانون، وبذلك أسقط الإسلام عن المحكومين واجب طاعة السّلطة الجائرة” (ص 350 ـ 351).
ويتنبه الغنوشي للرأي القائل: “إنّ المفهوم الحديث للشّورى التي زكاها الإسلام، هو الدّيمقراطية البرلمانية” (ص 351). ويري المؤلف ان الغنوشي، “يذهب إلى تبنّي الديمقراطية الغربية بصورتها المعاصرة” (ص 353).
تنبع أهميّة الغنوشي، بحسب المؤلف، من كونه أحد قادة الحركة الإسلامية القلائل، الذين يقولون إنّ الدولة ضرورة اجتماعية إنسانية، وإنّ إقامتها ليست فريضة دينينة
وتحت عنوان: المجتمع المدني مقابل الدولة، يرى الغنوشي “أن الأصل في إقامة (الحكومة) أو نصب (الإمام) هو تحقيق هدف الجماعة، ونهوضها برسالتها؛ وأنّ الدّولة ليست أكثر من مجرد أداة من أدوات الجماعة في ذلك. بمعنى آخر، فإن اليد العليا في هذه العلاقة هي للجماعة، سيّدة الأداة والمتحكمة فيها، وعلاقتها معها لا تتوقف على مجرد الاختيار لمن يحكمها، بل هي علاقة السيّد بالخادم، وليست علاقة العبيد باختيار سيّدهم” (ص 354).
يتبنّى الغنوشي في كتاباته فكرة الدولة الدستورية، فالغنوشي يؤسس لدستورية الدولة في الإسلام، “اعتماداً على المشروعية التاريخية (للإجماع) كأصل من أصول التشريع، ليوظّف ذلك في إطار مشروعية المجلس النيابي. فهو، (…) يصل إلى نتيجة أن (الإجماع هو نظام الإسلام للشورى)، فليس هناك فرق كبير بينهم وبين أعضاء المجالس النيابية” (ص 360).
ويؤكد الغنوشي، على أهمية الديمقراطية، ونظامها الانتخابي لحلّ الإشكالية يرى أنّ التاريخ الإسلامي لم يستطع إيجاد حل لها. فهو يرى “أنّ الديمقراطية ما هي إلا بضاعة إسلامية أثمرت في الغرب” (ص 364). ولا يخفي الغنوشي “أنّ تمسّكه بالديمقراطية نابع من كونها بديلاً عن اللجوء للعنف”. (ص 365). فالديمقراطية، بحسب الغنوشي إذاً، “هي مجرد آلة يمكن لكلّ فريق أن يستخدمها بما يحقق له أهدافه، على اعتبار أن آلياتها الأصليّة تتصف بالحيادية” (ص 366). ويرى الغنوشي، “أنّ العيب ليس في الديمقراطية ذاتها، بل في التطبيق المشوّه لها في بلادنا” (ص 367).
وينتقد المؤلف، ما ذهب إليه الغنوشي في كتاباته فيقول: “ما دامت الديمقراطية في موطنها الأصلي تقوم على نهب الخارج بقوّة العسكر، فهل يتوقع أحدّ أن تقوم في بلادنا ديمقراطية كالتي يحلمون بها، لتتحدى النّهب والهيمنة؟ بل هل أن (نشر الديمقراطية) في بلادنا هو شيء آخر سوى ضمان استمرار عمليات النهب، والهيمنة، والسيطرة، وسرقة ثراوتنا، لصالح العرب، ولاستمرار رفاهيته” (ص 372).
يولي الغنوشي اهتماماً بالغاً لمسألة الحريات في الإسلام، ويكاد لا يخلو كتاب من كتبه من مناقشة هذه المسألة. ويمكن إبراز أهمّ ما يخلص إليه على النحو التالي:
1 ـ حرية المعتقد (…).
2 ـ الحرّيات السّياسية (…).
3 ـ الحريّات الاجتماعية (…).
4 ـ حرية المعارضة (…).” (ص 372).
وحول استخدام العنف، “لا ينكر الغنوشي مشروعية الثّورة على الحاكم الظالم،(…) غير أنه ينتقد اللجوء إلى العنف من قبل بعض التيارات الإسلامية” (ص 374).
يستخلص المؤلف، من كتابات الغنوشي، أن هناك خلافاً مع (جماعة الإخوان المسلمين)، في نقطتين مهمتين: “النقطة الأولى، هي تأكيده على أن النصوص الإسلامية، لا تقطع بوجوب إقامة الدولة الإسلامية(…)، النقطة الثانية، هي تأكيده على مسألة الحريّات كأصل من أصول الإسلام” (ص 375).
(المصدر: عربي21)