جدل ترجمة القرآن الكريم بين تركيا ومصر بدايات القرن الـ20: نقاش ملتبس ومؤسس
بقلم بوعزى عسام (أستاذ الأدب الإسباني والترجمة، كلية الآداب المحمدية، جامعة الحسن الثاني- الدار البيضاء)
من خلال محاولتنا أن نؤرخ لـ”نظريات ترجمة القرآن الكريم”، والتي تشغل الفصل الأول من كتابنا “معالم نظرية تأصيلية لترجمة القرآن الكريم”، وقفنا عند محطة فاصلة في هذا الصدد، وهي الجدل الفكري الذي ثار في مصر في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، والذي يمكن أن نصفه بعد مضي قرابة قرن من الزمان بالملتبس والمؤسس في آن.
غير أن النقاش إذا كان في العصور الأولى، فهو يفتقر إلى حد كبير لواقع ترجمي يمكن أن يشكل سياقا موضوعيا للتفكير والحكم عليه، فإن القرنين الـ20 والـ21 شهدا مجموعة من التحولات ستلقي بظلالها على التصورات النظرية والجدل الفكري حول الموضوع.
“فتنة” ترجمة القرآن الكريم بين تركيا ومصر
فقد حدث جدل؛ بل مواجهات داخل هذه النخب، أو مواجهات مع السلطة التي سببت النفي والتخلي عن مناصب رفيعة في الدولة، وذلك في خضم التحولات التي شهدها العالم الإسلامي في بدايات القرن الـ20، وتنامي المد الاستعماري ماديا وفكريا بعد إلغاء الخلافة العثمانية، وتنامي المد القومي في تركيا، وفي مصر بعد ذلك على خلفية الخلافات بين النخب الفكرية الإصلاحية والمحافظة.
وعليه، فرغم كون الجدل الذي رافق ترجمة القرآن الكريم قد تزامن في الوقت والأطراف التي تمثل المواقف المتقابلة في كل من تركيا ومصر، إلا أن الاختلاف بين السياق كان بينا، ما بين بلد شهد تغيرا جذريا في الحكم بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث ألغيت الخلافة العثمانية وأعلن عن ميلاد الجمهورية التركية سنة 1922، وبدأت معه حملة مؤسسية رسمية ذات طابع قومي علماني متطرف ومنغلق فيما يرتبط باللغة (تغيير الأبجدية التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية) أو المجال الديني التعبدي للغالبية المسلمة (وقف الأذان ومنع أداء الصلاة بجامع آيا صوفيا في 21 فبراير/شباط 1925، مع ما لهذا الصرح من مكانة كبيرة جدا في نفوس الأتراك باعتباره رمزا لفتح القسطنطينية وإلحاقها بالجغرافيا الإسلامية)، وفي 21 فبراير/شباط 1925 قررت الحكومة التركية بقيادة أتاتورك قراءة القرآن الكريم باللغة التركية بدلا من العربية، وقرئت هذه الترجمة بدلا من النص الأصلي العربي على المسامع بالجوامع.
غير أن السياق التركي الذي يبدو من خلاله وجود خلاف بين رؤيتين مختلفتين تماما للبلد؛ رؤية تنظر إلى تركيا على أنها جزء من العالم الإسلامي، بل هي حاملة لواء الخلافة منذ 7 قرون. وعليه، فإن تعاملها مع القرآن الكريم لا يجب أن يخرج عما سار عليه البلد قبل إعلان الجمهورية. أما النظرة الثانية فقد كانت قومية علمانية متطرفة، تقدم على حملة منظمة للقطع مع الماضي الإمبراطوري للبلد بكل مظاهره. وبالتالي، فإن التهديد، الذي كانت تستشعره بعض النخب الدينية على مكونات تعتبرها أساسية في هوية الشعب التركي، كان له ما يبرره في الواقع.
أما مصر فقد كانت تعيش في ظل “استقلال منقوص” عقب معاهدة 1920، التي تلت ثورة 1919، والتي حافظت للإنجليز على العديد من الامتيازات، ولم يكن ذلك يمت بأي صلة بالسياق التركي، الذي كانت فيه الجرافة الأتاتوركية تعمل بأقصى طاقتها.
وعلى أي حال، فإن هذه المناقشة التي ظهرت في تركيا انتشرت في بلدان العالم الإسلامي ولا سيما في مصر؛ لأنها مهيأة لمناقشة هذه المسائل أكثر من بلدان أخرى في العالم الإسلامي. وقد ساهم الشيخ مصطفى صبري في النقاش، حيث ألف كتاب “مسألة ترجمة القرآن” في 130 صفحة سنة1931، وقد ناقش فيه حجج كل من الشيخ محمد مصطفى المراغي ومحمد فريد وجدي في جواز ترجمة القرآن والتعبد بها في الصلاة، وبيّن “فساد” ذلك من الناحية الشرعية بأدلة كثيرة، منبها على ما يترتب على المسألة من أخطار.
وكان من مؤيدي الشيخ المراغي المستشار محمد فريد وجدي، الذي كان في ذلك الوقت مديرا لمجلة الأزهر ، وقد جمع وجدي آراءه في بحث أكبر من بحث الشيخ المراغي، ونشره بعنوان “الأدلة العلمية على جواز ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية”، وأخرجه في ملحق العدد الثاني من مجلة الأزهر، وعُني فيه بالرد على المعارضين وخاصة الشيخ محمد سليمان، والشيخ محمد مصطفى الشاطر.
التقييم والدروس
وقد ارتأينا أن نتدارس هذا الموضوع في عنوانين عريضين:
1- الالتباس
تحت هذا العنوان، يمكن القول في تحرير نقطة الخلاف الرئيسة في مسألة ترجمة القرآن الكريم، حيث كان التيار الإصلاحي، ممثلا في الشيخ المراغي وفريد وجدي، يؤيد قرار حكومة الجمهورية التركية في اعتماد الترجمة إلى التركية للقرآن الكريم، واعتمادها في التلاوة والصلوات المفروضة في المساجد، وهو ما كان يرفضه الفريق الثاني الذي تزعمه الشيخ مصطفى صبري. وقد ساق كل فريق الأدلة على صواب رأيه سواء من الناحية العقائدية أو التشريعية أو التاريخية أو الاجتماعية.
وعليه، فإن مدار الخلاف لم يكن الترجمة كما نراها اليوم؛ أي نقل النص القرآني إلى لغات أخرى (وهي ليست قرآنا بل لها حكم التفسير) لتقريب رسالة القرآن الكريم لمن لا يعرف اللغة العربية بمستوى كاف للاطلاع على النص القرآني باللغة العربية؛ بل إن محل النقاش هو استبدال نص القرآن الكريم العربي بالترجمة، واستخدامها في كل الأغراض التي تخص الأصل، سواء من الناحية التشريعية أو الشعائرية أو التعبدية أو غيرها. وهذا ما يجعله مغايرا تماما للنقاشات الحالية في نظرية الترجمة التطبيقية على القرآن الكريم، والتي تنحو إلى الغرض الأول المذكور أعلاه. حتى أن الشيخ مصطفى صبري في كتابه لا يعترض على الترجمة ذات المنحى التفسيري التقريبي للمعاني القرآنية بمحدوديتها وأغراضها التي لا يمكن أن تخرج عنها.
فعلى الرغم من كون النقاش توسل بالأدلة الشرعية وتوسع في ذلك توسعا من العمق بمكان، خصوصا ما يتعلق بالشق العقائدي الغيبي “اللاهوتي” من الموضوع حول القرآن المنزل باللغة العربية، والموجود باللوح المحفوظ، كما قدم إضافات وأفكارا حول الوضع الاجتماعي والتاريخي للشعوب الإسلامية أعجمية اللسان، ويبقى هذا النقاش نقاشا مخصوصا. فالحالة التركية يمكن أن توصف بالفريدة في تعاطيها الاستئصالي الإحلالي مع اللغة القومية والمعتقدات الدينية لغالبية السكان، حتى بالمقارنة مع الأنظمة الشيوعية ذات الاتجاه الإلحادي؛ بل إن طبيعة هذه السجالات تمنح انطباعا بأن الأمر كان يتعلق بهواجس النخب الفكرية المصرية، التي دخلت غمار هذه القضية، والسجالات بين المحافظين والإصلاحيين القوميين، الذين بنوا جزءا من كفاحهم على أنه أكثر من نتيجة لواقع اجتماعي يشهد زلزالا في عقيدته وهويته مثل الحالة التركية.
2- الجانب التأسيسي
وانتهى الأمر بعد طول نقاش وجدل إلى فتح حوار للتوصل إلى صيغة عمل، بعد أن قررت مشيخة الأزهر وضع تفسير عربي دقيق تمهيدا لترجمته ترجمة دقيقة بواسطة لجنة فنية مختارة، واجتمعت لجنة التفسير بضع مرات برئاسة مفتي مصر في ذلك الوقت، ووضعت “دستورا” تلتزمه في عملها، ثم بعثت بهذا الدستور إلى كبار العلماء والجماعات الإسلامية في الأقطار الأخرى تستطلع آراءهم فيه، رغبة منها في أن يخرج هذا التفسير العربي في صورة ما أجمع عليه الأئمة. ورأت اللجنة بعد ذلك أن تضع قواعد خاصة بالطريقة التي تتبعها في تفسير معاني القرآن الكريم، وقد خرج فعلا إلى حيز الوجود هذا التفسير، الذي سمي “المنتخب في تفسير القرآن الكريم”، وقد طبعه المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة، وكتب في مقدمته ما يفيد أنه تفسير مختصر محرر كتب بالعربية تمهيدا لترجمته إلى اللغات الأجنبية.
تعليقا على هذه النقطة، يمكن القول إن مشيخة الأزهر قد اعتمدت الرأي المساند للترجمة التفسيرية، وقامت بإعداد تفسير للقرآن الكريم حرصت أن يحظى بأكبر قدر من الإجماع من المراجع العلمية، في خطوة أولى لإعداد الترجمة. وفي المقام الثاني، فإن هذا النقاش كان الأول من نوعه في سياق تبني المنطقة العربية والإسلامية لنموذج الدولة القومية الأوروبي المنشأ، والتي تستند في الأساس إلى مقولة تنسب للملكة إيزابيلا القشتالية “أرض واحدة وشعب واحد ولغة واحدة”. وقد كانت هذه “العقيدة” القومية في شقها اللغوي تصطدم بالقرآن الكريم وخاصيته اللغوية العربية، التي تتجاوز الحدود القطرية الحادثة. وقد مثل المنحى القومي المتطرف مشفوعا بنزعة إلحادية حادة في وضع فريد بالتاريخ الإسلامي، بما في ذلك وضع الشعوب المسلمة في صدر الرسالة، ورغم أن مصر كانت تعيش وضعا مختلفا تماما؛ لكن التوافق الفكري والسياسي للجناح “الإصلاحي” أو “الليبرالي” أو “القومي” جعله يقف موقفا مساندا؛ بل مبررا لقرارات أتاتورك على أنها نصرة للإسلام، كما أشار الشيخ صبري في كتابه المذكور، غير أن هذا المنحى لم يلق صدى واسعا؛ لكونه يناقض معطى نعتبره بنيويا في العقل المسلم يخص علاقة الوحي باللغة العربية.
وفي المقابل، فإن هذا الموقف وضع النخب الفكرية الإسلامية أمام إشكالية مقاربة هذه القضية في السياق السياسي والفكري الجديد، وأثمرت تلك المبادرة تأليف تفسير منتخب للقرآن الكريم تمهيدا للقيام بالترجمة ومجموعة من التوصيات حول هذه العملية.
خلاصة القول إن “فتنة” ترجمة القرآن الكريم، التي مثلت موضوعا ملأ الدنيا وشغل الناس مدة طويلة في مصر، حتى أن بعض الصحف كانت تضع عناوين “ترجمة القرآن أيضا” على المقالات التي تتناول الموضوع، إشارة إلى كونها حالة خاصة لا يمكن سحبها على القضية تلقائيا، فقد ساهمت في تشجيع النقاش العام في بلدان أخرى حول هذا الموضوع، والتنبه إلى ضرورة ترشيده في إطار الثوابت الإسلامية العامة لتحقيق المنافع المرجوة، وتلافي المزالق الممكنة. غير أن هذه الجهود لم تتطور مع مرور الزمن لتتحول إلى مؤسسات بحثية تتجاوز الأفق القطري الضيق، وتستجيب للحاجات الطارئة لعالم أكثر تواصلا وتمازجا وتعقيدا.
(المصدر: الجزيرة)