مقالاتمقالات مختارة

جدل المصطلح: الإرهاب.. الراديكالية.. والإسلام

بقلم د. بشير موسى نافع

في حمى التراشق الذي واكب قرصنة موقع وكالة الأنباء القطرية، أعاد مدون نشر صورة لمسؤولين من حركة طالبان يجيبان على أسئلة الصحافيين في العاصمة القطرية. المدون، الذي أراد الانتصار للحملة التي تقودها الإمارات ضد قطر، وجد أن الصورة توفر دليلاً قاطعاً على سياسات الدوحة. حركة طالبان هي تنظيم إرهابي، قال المدون، وليس ثمة شك أن قطر تستضيف أعضاء حركة إرهابية. الصورة، بالطبع، حقيقية؛ وكانت دعوة المسؤولين الطالبانيين إلى الدوحة، بل والسماح لحركة طالبان بفتح مكتب تمثيلي لها، جزء من اتفاق قطري مع إدراة أوباما، التي كانت تسعى لبدء مفاوضات مع طالبان. ولكن هذه ليست المسألة هنا. المسألة هي ما إن كان من المنطقي تصنيف حركة طالبان باعتبارها تنظيماً إرهابياً، والاستخدام المجاني لمصطلح الإرهاب.

حكمت طالبان أفغانستان لسنوات قليلة، بعد أن نجحت في وضع حد لفوضى السلاح وانقسام البلاد إلى إقطاعيات مسلحة في منتصف التسعينيات. أطاح الغزو الأمريكي لأفغانستان، الذي لم يتمتع بغطاء قانوني أممي، نظام طالبان في نهاية 2001؛ ولكن الأمريكيين، الذي خاضوا في أفغانستان أطول حرب في تاريخهم، لم يستطيعوا إحلال السلم في البلاد. على العكس، دفع الغزو والاحتلال الأمريكيين أفغانستان إلى حقبة طويلة من الحرب الأهلية، يبدو أن طالبان تتمتع فيها باليد العليا. طالبان هي بالتأكيد حركة مسلحة، ولكن نشاطات هذه الحركة محصورة بأفغانستان؛ وتمثل تجلياً تقليدياً لحروب الحركات الوطنية ضد الاحتلال الأجنبي، ولصراعات القوى في الحروب الأهلية. يمكن بالتأكيد وصف نظام حكم طالبان بالتخلف والرجعية والسيطرة القمعية، ولكن ليس ثمة دليل على أن طالبان مارست نشاطات إرهابية، لا قبل الغزو الأمريكي ولا بعده، لا ضد الدول الغربية التي شاركت في احتلال أفغانستان، ولا ضد أي من الدول الأخرى. فهل يمكن استخدام مصطلح الإرهاب لوصم طالبان؟

ليس كل الدول المعنية بالشأن الأفغاني يعتبر طالبان أو يتعامل معها كحركة إرهابية. هذا لا يعني، بالطبع، أن هناك مقياساً واحداً لتعريف طالبان؛ ففي حالات كثيرة تلعب حسابات التدافع السياسي والدولي أو الإقليمي دوراً هاماً في تحديد العلاقة مع الحركة ومع أطراف الأزمة الأفغانية بصورة عامة. هذا التباين في مواقف الدول، بدافع سياسي كان ذلك أو من حيث المبدأ، يمكن ملاحظته أيضاً في التعريفات المتناقضة لحركة حماس وكيفية التعامل معها. وفي سوريا، كذلك، يتفق الروس والأمريكيون على اعتبار النصرة وداعش تنظيمين إرهابيين، ولكنهم يختلفون حول أحرار الشام.

وربما لم ينفجر الاضطراب حول المصطلح كما انفجر بعد الهجمات الإرهابية الأخيرة التي تعرضت لها مدينتا لندن ومانشستر البريطانية. الشاب الذي نفذ العمل الإرهابي الانتحاري بمدينة مانشستر، كان مسلماً، ينتمي لعائلة من أصول ليبية ويعتقد أن علاقة ما، غير عضوية بالضرورة، ربطته بتنظيم الدولة. ولكن سلمان العبيدي ولد في بريطانيا، وتعلم في مدارسها، فكيف إذن غاب تحوله الراديكالي عن الجهات المعنية، تساءل البعض في دوائر السياسة والإعلام البريطانية، بالرغم من أن مسلمين أعربوا لرجال الشرطة مسبقاً عن قلقهم من سلوك الشاب. ملاحقة المتطرفين ومتابعتهم ليست مسؤولية الأجهزة الأمنية وحسب، فهناك مؤسسة حكومية، تدعى «إمنع»، أسست أصلاً للتعامل مع التطرف وجذوره داخل المجتمع. ولكن حجم معارضي «إمنع»، الذي يتهمون عملها بالانطلاق من فرضية اتهام المجتمع المسلم كله بالإرهاب، لا يقلون عن مؤيديها. المشكلة بالتأكيد هي أبعد من ذلك، وتتعلق بالصلة بين تحديد المصطلحات وتعريفها، من جهة، ورسم السياسات واعتمادها، من جهة أخرى. فهل الراديكالية حكر على الإسلام والمسلمين، أم أن هناك يساراً راديكالياً، ويميناً راديكالياً؛ مسيحية راديكالية، وهندوسية راديكالية، أيضاً؟ وهل أن كل راديكالي هو إرهابي منتظر بالضرورة؟ هناك قومي بريطاني ارتكب جريمة قتل شنيعة لنائبة برلمانية في العام الماضي لاختلافه مع آرائها؛ وهناك يساري عمالي راديكالي، مثل جيرمي كوربن، يوشك أن يفوز في الانتخابات البرلمانية ويصبح رئيساً للحكومة البريطانية. ما يزيد المسألة تعقيداً هو البحث عن مقاربة موضوعية لتحديد الراديكالية وطرق التعرف عليها؛ الأمر الذي يدرك دارسو تاريخ الأديان ما يحيط به من صعوبة وتعقيد بالغين.

ولد أغلب المصطلحات المتداولة في الجدل حول الإسلام والإرهاب أصلاً في دوائر الدراسات المسيحية الأكاديمية الغربية. مصطلحات مثل «تقليدي»، و»أرثوذكسي»، و»أصولي»، و»إصلاحي»، تستخدم الآن، بقدر كبير من العسر والتحفظ، لدراسة تاريخ الإسلام أيضاً؛ ولكن اختلاف السياق الذي ولدت فيه هذه المصطلحات عن السياق التاريخي الإسلامي، يضطر دارسو الإسلام وتاريخه عادة إلى إعادة طرح تعريفهم الخاص للمصطلح. نشأت طالبان، مثلاً، في أوساط إحياء حنفي، مذهبي، تعود في جذورها إلى ما يعرف بالمدرسة الديوبندية، التي استهدفت الحفاظ على الهوية الإسلامية لمسلمي الهند منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر بالعودة إلى المواريث الكلاسيكية للمذهب الحنفي. بهذا المعنى، يوصف توجه طالبان الفكري وثقافة المنتمين لها بالتقليدية والمحافظة وليس الراديكالية. جماعة التبليغ، الجماعة الدعوية المنتشرة في كافة أنحاء العالم، جاءت من الخلفية المذهبية المحافظة ذاتها. ولكن، وبينما لجأت طالبان إلى حمل السلاح، تعتبر جماعة التبليغ الأبعد عن فكرة اللجوء للعنف.

من جهة أخرى، أصبح الاتهام بالوهابية أحد أبرز، وأسهل، وسائل التفسير الشائعة للإرهاب (والتحول الراديكالي، على السواء). ولأن الوهابية تنتمي إلى تيار عريض يعرف بالسلفية، يعطي أولوية للنص المؤسس، فربما يمكن بالفعل وصف الوهابية بالأصولية. المشكلة، بالطبع، أن الوهابية كانت حركة راديكالية، مقاتلة، استخدمت العنف لفرض رؤيتها للعالم والإسلام في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولكنها ليست كذلك اليوم. يغلب على الاتجاه العام لمؤسسة العلماء الوهابية، التي تعتبر المملكة العربية السعودية مركزها الرئيسي، الولاء للسلطة الحاكمة، طاعة ولي الأمر، والابتعاد عن وسائل المعارضة المعلنة والصريحة لسياسات الدولة (واللجوء، بدلاً من ذلك، إلى ما يعرف بالنصيحة غير المعلنة). ليس هناك من شك في أن جماعات سلفية التوجه لجأت إلى العنف وحملت السلاح، ولكن هناك جماعات وشخصيات سلفية أخرى لعبت دوراً رئيسياً في حركة الإصلاح والتجديد التي شهدها العالم الإسلامي منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر. فهل يمكن أن تكون الوهابية أداة تفسير يركن إليها لمواجهة خطر الإرهاب المتزايد؟

يلعب الجدل حول المصطلح في المجال الأكاديمي دوراً هاماً في تطوير قراءة الظواهر، وإنشاء رؤى أصح وأقرب إلى الحقيقة التاريخية. وربما يمكن القول أن هذا الجدل واكب التقدم المتسارع، خلال العقود القليلة الماضية، في حقل الدراسات الإسلامية. في المقابل، يجري استخدام مصطلحات محل الجدل بدرجة عالية من اليقين في الأوساط السياسية والإعلامية، تؤسس أحياناً لسياسات باهظة التكاليف، وتساعد على خلق مناخ من التوتر والكراهية. لا يمكن، بالطبع، تجاهل الشعور المتزايد بالألم والقنوط، الذي يصيب المجتمعات المسلمة في الدول الغربية، وسلطات الدولة المعنية، على السواء، بعد كل هجمة إرهابية. بريطانيا وحدها تعرضت لثلاث هجمات إرهابية خلال أقل من ثلاثة أشهر. وبالنظر إلى المسؤولية الملقاة على عاتق أجزة الدولة في منع هذه الأعمال قبل وقوعها، وما يمكن أن تتركه من مخاطر على حياة المسلمين ومستقبلهم، يمكن فهم هذا البحث المحموم عن إطار تفسيري لظاهرة الإرهاب. الواضح، أن ليس ثمة وسيلة سريعة وسهلة للتفسير، ولا أن هناك نموذجاً واحداً يمكن القياس عليه.

(المصدر: موقع الأمة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى