بقلم د. إبراهيم الطالب
التاريخ سلسلة حوادث يُنتج بعضها بعضا، ويقوي بعضها بعضا، ويضعف بعضها بعضا، وتفاعلها قوةً وضعفا هو على وجه الحقيقة تدافعٌ بين الخير والشر، ومواجهة بين الحق والباطل.
مواجهة وتدافع دائمان لا يتوقفان على مدى الدهور والأزمان.
والحكم على الأمر بالشر والباطل أو بالخير والحق له مرجعيات مختلفة اختلافا بينا، ومتناقضة تناقضا صارخا، لكن قد تتفق بعض المرجعيات فيما بينها بشأن أمور معينة خصوصا المرجعيات ذات المصدر الإلهي كاتفاقها على وجود الله وإرساله الرسل وإيجابه لطاعتهم.
لذا، ليس سهلا على المسلم المؤمن أن يؤسس موقفا أو رأيا ما، دون مُراجعة ما يفرضه إيمانه بالله واليوم الآخر من مقتضيات ومستلزمات تحُول دون أن يسقط هذا المسلم في تسيب فكري أو عقدي أو سلوكي.
إن الإيمان بالله ربا وباليوم الآخر معادا يوجب على المرء أن يكون على حذر دائم في فعله اليومي ومواقفه الشخصية من الأفكار والأحداث والأشخاص، فكل ذلك إما أن يكون فيه مناصرا للباطل معاديا للحق، أو مناصرا للحق معاديا للباطل.
ومن أهم القضايا حساسية وخطورة في وقتنا الحاضر هو محاولة فرض مقتضيات العلمانية على المسلمين فرضا بالقوة، ولعل أخطر ما في هذه المحاولة هو إثارة الخلافات داخل الدائرة الإسلامية والإصرار على إقحام العلمانية كمكون إسلامية لا يناقض دين الإسلام وعقيدته.
إن الخلافات التي تتمحور حول قضايا الفكر والثقافة والعقيدة والإيديولوجيا بين العلمانية والإسلام، هي مضامير لمعارك بين الحق والباطل، وهذه المعارك ليست بين المسلمين مهما تناقضت مذاهبهم واختلفت سبلهم؛ بل هي بينهم وبين أعدائهم التاريخيين الذين فصَّل القرآن الكريم والسنة النبوية أحوالهم وأحكامهم، وطُرقَ التعامل معهم في حالة السلم والحرب، وبَيَّنا علاقات المؤمنين بهم سواء الاجتماعية والاقتصادية والديبلوماسية والسياسية…
ولقد اعتنى الله سبحانه وتعالى ببيان أحوال الناس وقَسمهم في القرآن -وهو آخر رسالاته إلى خلقه-، باعتبار الإيمان به وتحقيق توحيده، إلى: مؤمنين وكفار ومنافقين.
إن الخلاف بين العلمانية والإسلام داخل المجتمعات الإسلامية ليس سوى ذيلا لحرب العلمانية الدولية على الإسلام؛ وذلك للتنافس الشديد حول “العالمية والتشريع” بين الليبرالية وشريعة الإسلام.
فالليبرالية بعد انقلاب العلمانية على النصرانية استطاعت أن تخضع العالم الإسلامية لنظمها؛ فأسقطت نظام الخلافة الإسلامية الذي عرف في قرونه الأخيرة كثيرا من التحريف على مستوى الممارسة التشريعية والعقدية، الأمر الذي استطاعت معه القوى المتربصة اختراق مختلف البنيات المجتمعية.
هذا القوى المتربصة شكلت نظاما دوليا يشتغل بآليات يصعب تتبعها واستقصاء ترابطها العضوي، لكن مكوناته رغم تباين مجالات اشتغالها تعمل وفق فكر واحد وسياسة واحدة وإيديولوجيا واحدة، وإن اختلفت تمظهراتها وتشكلاتها.
فالجمعيات والمنظمات على اختلاف ميادين اشتغالها هي امتداد من حيث الفكر والسياسة والإيديولوجيا لهذا النظام الدولي المهيمن على المؤسسات الدولية.
إن هذا الصراع بين العلمانية الدولية والإسلام يتمظهر اليوم بشكل قوي في مشروعين كبيرين:
1- إعادة قراءة الإسلام قراءة علمانية لإعادة تشكيله حتى يتلاءم مع العلمانية وحقوق الإنسان بوصفهما المرجعية الفكرية والعقدية والتشريعية للبشرية جمعاء.
2- الحرب على كل من يعمل أو يطالب بالعودة إلى الإسلام شريعة وعقيدة ومنهاج حياة، وتشجيع كل الحركات التي تتبنى مشروع علمنة الإسلام، وتمكين أتباعها من المؤسسات، وتلميع صورتهم في الإعلام، وترويج أفكارهم وتصوراتهم على أنها الحق الذي لا ينافي الإسلام ويتناقض مع عقيدته أو شريعته مهما كان التناقض بينا والتنافي واضحا.
إن العلمانية الدولية اليوم في قراءتها للإسلام تحاول أن تمحي الحدود الفاصلة بين دوائر الإيمان والكفر والنفاق؛ حتى لا يبقى للوحي سلطة على النفوس ولا لشريعته نفوذ في الواقع.
فمفهوم الإيمان (مؤمنون بلا حدود)، ومفهوم حرية الضمير ومفهوم حرية الاعتقاد ومفهوم الحرية في إطلاقيته مثلا، هي مفاهيم ترمي إلى نسف الحدود الفاصلة بين الدوائر العقدية الثلاثة المذكورة في أي دين؛ وبهذا يستوي الإيمان والكفر والنفاق، وتسود العلمانية التي لا تعترف بالهدى والضلال ولا الحق والباطل، وليس فيها مفهوم للتقوى والحياء والعفة، فمفهوم الحرية فيها يتأسس على تأليه الإنسان وتغييب كامل لوجود الله وقيوميته وحاكميته.
فجل النظريات العلمانية في مجالات السياسة والفكر والثقافة والفن والاقتصاد لها هدف واحد في حربها على الدين؛ تُمحوره حول القضاء على سلطة المقدس على سلوك الناس، وتتخذ عدة آليات لتحقيق ذلك، تلبسها لبوس المنهج والنظر والاجتهاد؛ في حين وبعد التطبيق يخلص هذا المنهج والاجتهاد والنظر في كل قضاياه إلى اعتبار الدين شيئا بشريا نسبيا لا مقدس فيه ولا مطلق؛ يجب أن يبقى حبيس المعتقد الفردي ولا يتجاوز على أكبر تقديرٍ حدودَ جدران المساجد؛ بله أن تكون له شريعة تنظم الشأن العام وتضبط الحريات الفردية.
فلا عجب إذًا، والحالة هذه، أن يكون الخلاف شديدا بين العلمانيين والإسلاميين، فالتناقض بينهما يرجع إلى التناقض بين عقيدتين:
إحداهما: عقيدة تؤمن بالله خالقا وحاكما ويعتقد أتباعها أن بعد الحياة الدنيا هناك حياة أخرى تبدأ باليوم الآخر، يومِ حساب البشر عما أنجزوه في دنياهم، لذا فهي تفرض أن ينضبط السلوك الفردي بمنظومة قيم أخلاقية مبنية على مقتضيات الإيمان بالله واليوم الآخر؛ وتطالب الدولة بحماية الفضاء العمومي من كل ما يدفع الفرد إلى الوقوع في مخالفة شريعة الإسلام، ومن هنا كان نظام الحسبة في تاريخ الأمة الإسلامية، ومن هنا كان خضوع نظام الدولة للشريعة الذي استمر على مدى تاريخ الأمة إلى غاية غزوها من طرف المحتل العلماني الغربي.
وثانيهما: عقيدة تَفْصل بين الحياة والدين وتستند إلى منظومة “قيم” مادية؛ تلغي وجود الله سبحانه إلها قيوما له الخلق والأمر، وتنظم الشأن العام وفق منظوم من الشرائع البشرية المنفصلة في مرجعيتها عن كل دين ووحي، وتعتبر أن الإنسان لا حاكم له سوى نفسه، ولا مصدرللقيم في حياته سوى ما رَآه حسنا، دون الرجوع إلى دين أو رب.
وبناء على ما تقدم فكل محاولة للتوفيق بين العلمانية والإسلام هي محاولة للتلفيق بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال والرشد والغي ومحاولة لفَصم العروة الوثقى..
فحقا: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ )
لكن أيضا:
(قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة 256.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
(المصدر: هوية بريس)