جدل الدين والدولة في المسيحية والإسلام.. قراءة معاصرة (1من2)
الكتاب: الدين والدولة مقدمات في جدل الدين والسياسة في المسيحية والإسلام
الكاتب: محمد السالمي
الناشر: مجمع الأطرش لنشر وتوزيع الكتاب المختص، تونس 2020
عدد الصفحات: 223
1 ـ سياق نشر الكتاب
على خلاف ما يوحي به عنوان الكتاب من طرح للقضايا الفكرية العامة ذات صلة بعلم الأديان المقارن، يخوض المتن في الشأن المحلي التونسي خاصّة وينخرط في النقاش المحتدم حول المشروع المجتمعي لتونس اليوم. فيدلو بدلوه في الجدل الذي أفرزته كتابة الدستور التونسي وقسمت التونسيين إلى معسكرين متنازعين؛ علماني يرى أنّ الدين تجربة خاصة وممارسة فردية لا سلطان لها على تدبير الشأن العام وممارسة السياسة، وديني يسعى إلى فرض الشريعة الإسلامية أسّا من أسس كتابة الدستور، فيعود بنا إلى ذلك الحوار الذي حوّل الساحات العامة إلى أغورا (Agora) على الصيغة اليونانية القديمة، يتطارح فيها التونسيون مشاغلهم، وكثيرا ما حوّلها إلى اعتصامات وصدامات.
ويتنزّل هذا الأثر في سياق سياسي وفكري وحضاري بعينه، فلا نلتقط معانيه بشكل جلي ما لم نكن على بيّنة منه؛ فطرح علاقة الدين بالدولة كان مدخلا للتعبير عن موقفه الرافض لتقرير “لجنة الحريات الفردية والمساواة”، ولعرض وجهة نظر جامعة الزيتونة المختصة في العلوم الدينية منه، خاصة أن السياق العام أتاح لها فرصة رفع الصوت عاليا لمّا ألجم أقطاب الإسلام السياسي عن الكلام، من منطلق حسابات ربح الأصوات الانتخابية أو خسارتها، والحذر من أصابع الاتهام له بتوظيف الدين، ذلك المشترك بين عامة التونسيين، في معارك سياسية وتحويله إلى أصل تجاري.
لقد تم إنشاء هذه اللجنة بتكليف من الرئيس الأسبق الباجي قائد السبسي، وعهد لها مهمة إعداد تقرير يجْرد مجموعة النصوص القانونية التي تتعارض مع الحريات الفردية، ويبحث في الإصلاحات التشريعية الممكنة، وفقا لدستور كانون الثاني (يناير) 2014 ولالتزامات الجمهورية التونسية الدولية ووفقا للمعايير الدولية لحقوق الإنسان. ومع إصدار هذا التقرير سنة 2018 بلغ هذا النقاش ذروته واختلط فيه الفكري بالحقوقي بالسياسي.
ولا يفوت العارف بالشأن السياسي التونسي أن هذا التقرير كان، في بعد من أبعاده، ورقة الباجي قائد السبسي لملاعبة خصومه السياسيين؛ فقد تمرد عليه رئيس حكومته “يوسف الشاهد” الذي استولى على تحالفه مع حزب النهضة الإسلامي، وقد كان يحسب أن الفتى الغر صنيعتُه والجواد الذي سيركبه في سباق الانتخابات الرئاسية 2019. ثم أضحى بعد ذلك يعوّل على مخرجات هذا التقرير لحشر ممثلي الإسلام السياسي في الركن، وتوحيد القوى الديمقراطية من خلفه لتأمين عهدة ثانية في قصر قرطاج. ولكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه، فقد أنهكه المرض وخيانة الرفاق وصح قول وصف بعضهم له بالأسد الهرم الذي تحيط به مجموعة من الذئاب. وتفرق شمل حزبه ثم غيبه الموت. ومع ذلك، ظلت الأصوات المنادية بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة في تونس ترتفع، وإن تشتت جمعها وأضحت تفتقر إلى زعيم يقودها.
2 ـ في الدين والمجتمع:
ضمن خطط الباحث لإبراز مكانة الدين في المجتمع الإسلامي ودوره الحاسم في تشكل قيمه وتمتين روابطه يدرس دور الدين في ضبط الحياة الاجتماعية عامة، فيعود إلى بدايات ظهور التدين في المجتمعات البدائية، مبرزا أن سمتها تعدد الآلهة، مفسرا ذلك باعتقاد القبائل أن الأجداد الذين ماتوا يتحولون إلى آلهة، وأن كلا منهم يضطلع بدور، فيحل بعض مشكلات أحفاده الأحياء. ومن ثمة كانت كل آلهة تجسد الوجود الاجتماعي المميز لقبيلتها.
ثم كانت النقلة الكبرى بظهور الديانات السماوية، ورغم اشتراكها في التوحيد فإنها اختلفت من جهة الشمول؛ فالديانة اليهودية كانت دعوة قبلية تخص مجتمع بني إسرائيل. ومع بعث عيسى توسع الأمر ليتجاوز الدين الانتماء العرقي أو القبلي إلى الأخوة في الله، ثم سيتجاوز الدين الإطار القبلي والشعبي ليضحي رسالة تشمل الإنسانية جمعاء في الرسالة المحمدية. فيسلك الباحث مجاهل من صميم اختصاص علم الاجتماع وعلم الأنتروبولوجيا وتاريخ الأديان.
الدين الإسلامي كان وسطا بين الديانة اليهودية ذات الأبعاد القبلية المادية والمسيحية بالغة التجريد والمغرقة في المثالية. فكانت الواقعية سمته التي خولت له الاضطلاع بمجمل من الوظائف شأن إصلاح الحالة الاجتماعية العامة وحفظ تعامل الناس بعضهم مغ بعض. وليتجاوز الطرح المتعالي، يسلط حزمة من الضوء على علاقة الإسلام بالمجتمع العربي.
والمفارقة هنا أن الباحث يقبل عليها خاليا من كل استعداد منهجي أو معرفي، فيستند إلى النص الديني وحده للتأريخ لنشأة الأديان وللبحث في خصائص المجتمع القبلي. وينتهي إلى أن الدين يتطور بتطور التكوين الاجتماعي، من العشيرة إلى القبيلة إلى الشعب ثم إلى الأمة، وإلى أن الديانات السابقة بشرت بالرسالة المحمدية ويجد ذلك في ما قاله يوحنا في إنجيله: “وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ، رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي”قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ فِي الْكُتُبِ: الْحَجَرُ الَّذِي رَفَضَهُ الْبَنَّاؤُونَ هُوَ قَدْ صَارَ رَأْسَ الزَّاوِيَةِ؟ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ كَانَ هذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا! ذلك أقول لكم: إن ملكوتَ اللهِ يُنزَعُ منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره” إنجيل متى (21 :42).
ويخلص إلى أن الدين الإسلامي كان وسطا بين الديانة اليهودية ذات الأبعاد القبلية المادية، والمسيحية بالغة التجريد والمغرقة في المثالية. فكانت الواقعية سمته التي خولت له الاضطلاع بمجمل من الوظائف؛ شأن إصلاح الحالة الاجتماعية العامة وحفظ تعامل الناس بعضهم مع بعض. وليتجاوز الطرح المتعالي، يسلط حزمة من الضوء على علاقة الإسلام بالمجتمع العربي؛ فيرد إليه الفضل في تشكل أمة متكاملة بعد أن كان مجموعة من المجتمعات القبلية المتمايزة من جهة الثقافة والتقاليد والشعور بالانتماء القبلي، ويجعله العمود الفقري للثورة الحضارية التي شهدها المجتمع، فبعدما توحدت القبائل تحت راية الإسلام أعطى الدين الجديد الأمن والأمان للناس ووفر لهم الاستقرار على الأرض بدل النزوع إلى الهجرة الدائمة بحثا عن أسباب العيش” ص 54، مميزا أربعة أطوار من التاريخ الإسلامي؛ هي النبوة فالخلافة فالملك العضوض الذي يغلب عليه الظلم والجور ثم الملك الجبري الذي يحكمه الطغاة. ويجعل بداية الانحراف نحو الجور والطغيان مع ظهور الدولة الأموية.
ويستند في عملية التحقيب السياسي هذه إلى حديث النبوة، وهو حديث حسن أخرجه أحمد والبزار والطبراني وفقه يقول الرسول عليه السلام: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت”. ويدفع قارئه إلى الاستدلال بأن النهاية، وفق هذه النبوة، ستكون بالعودة إلى حكم الخلافة. فيكون الحاكم الإمامَ الذي يحوز السلطتين، السلطة الروحية والقيادة السياسية.
3 ـ الدولة والدين:
يستهل المبحث بإبراز فضل الدين الإسلامي في نشر العلم في العالم العربي والإسلامي والأوروبي أيضا؛ فقد رفع هذا الدين العرب من قبائل شديدة التخلف إلى أوج التقدم في زمانها. ويورد ذلك في سياق برهنته على أن الأصوات التي تنادي بضرورة فصل الدين عن الدولة واتباع نظام علماني تمثل نشازا، وتعكس جهلا بحقيقة التاريخ الإسلامي وبمنشأ العلمانية معا.
والأكثر إزعاجا بالنسبة إليه، أن هذا الصدى انتقل من الصراع الفكري الهادئ إلى أروقة الحكم وما يصاحبها من ضجيج. وهذا ما يدفعه إلى تعريف العلمانية؛ فيجد ضمن دائرة المعارف البريطانية تقديمها بكونها “حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها”، وتعرفنا دائرة المعارف الأمريكية بمعنى الدنيوية الواردة في التعريف السابق. فـ”هي نظام أخلاقي أسس على مبادئ الأخلاق الطبيعية، ومستقل عن الديانات السماوية أو القوى الخارقة”.
لقد اجتمعت إذن عناصر موضوعية كثيرة، وفق عبد الوهاب المسيري في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية”، “أدت جميعها إلى انقلابات بنيوية في رؤية الإنسان لنفسه وللطبيعة والإله. وقد تم الانقلاب العلماني في الغرب”. ويتمثل مطلبها الأول، وفق محمد السالمي، في استبعاد الدين من الحياة العامة وحصره في الممارسات الشخصية وفي ما له علاقة بالحياة الروحية للفرد، وجعل الحياة الاجتماعية بمنأى عن التصورات الدينية، دون أن يعني ذلك إنكارها للدين، فمن دعاتها فلاسفة مؤمنون دافعوا عنه بالعقل؛ من أمثال ديكارت وكانط. ومأتى الخلط الذي يصلها بالإلحاد آليا من تزامن ظهورها مع تيار التنوير الذي ارتبط بفلاسفة ماديين لا دينيين؛ من أمثال هوبز وجون لوك ودافيد هيبوم.
ولا علاقة للعلمانية بالعلم، رغم الاشتراك في الجذر اللغوي؛ فمنشؤها يعود إلى طبيعة العلاقة بين المسيحية والواقع الاجتماعي والاقتصادي السياسي في الغرب. وعرض الديانة المسيحية كفيل بجعلنا، وفق الباحث، نفهم الرحم الذي نشأت فيه هذه النزعة؛ فالمجتمعات المسيحية (دون غيرها) تقوم على سلطة برأسين، دينية ومدنية. ففي إنجيل مرقس ورد “أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: “أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ” ـ وكان يريد “أعطوا للدين حقه وللدولة حقها”.
فقد نشأت المسيحية في ربوع الإمبراطورية الرومانية وفي ظل حمايتها، وهذا ما سيؤسس لهاتين المؤسستين في الحكم ويعمّق ازدواج الوعي بهما في الأذهان. ولكن التساكن بينهما سريعا ما تحوّل إلى صراع على النفوذ والمآثر والعقارات. وظلت الكنيسة تحت الولاء للإمبراطورية الرومانية في عصر الأباطرة الطغاة مثل كاليغولا ونيرون. وتكرّس الاعتقاد بأن لا وجود لسلطة ليست من الله، وبأن من يقاومها كان يقاوم إرادته، وفرض الحكم التيوقراطي.
في مرحلة الإصلاح الديني في أوروبا، في القرن السادس عشر، ظهرت معارضة قوية لاحتكار البابا للسلطة الدينية بشكل مطلق. ودعت الفلسفة إلى مراجعة العلاقة بين الله والقيصر من جديد. وبعد أن سالت دماء غزيرة، في انجلترا خاصة، أفضت إلى تجريد السلطة الدينية من عوامل قوتها وتحويل كل ممتلكات الكنيسة إلى الأمة في 1789
ومع إصدار مرسوم ميلان للتسامح الديني والكف عن اضطهاد المسيحيين سنة 313 م، في عهد قسطنطين الأكبر، ومع نمو المؤسسة الدينية واكتسابها لأسباب القوة بدأ الصراع بينهما، وترسخ الإيمان بأن القانون الإلهي أقوى من أي قانون بشري، ثم نشأت نظرية الحق الإلهي ومدارها على أن الحكم لله وحده وأن البابا ممثله على الأرض. وكرّست السلطة السياسية نظرية العناية الإلهية بالمقابل، ومدارها على أنّ “البلاط الأرضي للإمبراطور هو انعكاس للإمبراطور السماوي، كما أن الإمبراطورية هي انعكاس للكون”؛ فالسماء مصدر السلطة ولكنها تجسد على الأرض عبر المرور بسلطة الإمبراطور دون المرور عبر سلطة الكنسية أو مباركتها.
هكذا تبادل الطرفان، على مر التاريخ، النفوذ سلميا حينا، واصطدما بطريقة حشية حينا آخر. وتحولت مقولة أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ” إلى “أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ َ وَمَا للهِ لِقَيْصَر” أو “أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ”.
وفي مرحلة الإصلاح الديني في أوروبا، في القرن السادس عشر، ظهرت معارضة قوية لاحتكار البابا للسلطة الدينية بشكل مطلق، ودعت الفلسفة إلى مراجعة العلاقة بين الله والقيصر من جديد. وبعد أن سالت دماء غزيرة، في إنجلترا خاصة، أفضت إلى تجريد السلطة الدينية من عوامل قوتها وتحويل كل ممتلكات الكنيسة إلى الأمة في 1789 ونقل المرافق غير الدينية التي كانت تحت سلطتها إلى إشراف الدولة. وفي تموز/جويلية 1790 نشرت الجمعية العامة، وكانت قد رفعت شعار اشنقوا آخر إقطاعي بأمعاء آخر قسيس بالنظر إلى التحالف بين الإقطاعيين والكنيسة وقتها، الدستور المدني. وانتهى العقل المسيحي بذلك إلى الفصل بين الدين والدولة فصلا نهائيا، تجسيدا لقول المسيح: “أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ”.
لقد كان الشطر الأول من الكتاب تأسيسا لمصادرات في ذهن المتقبل تؤكد التقابل بين المسيحية والإسلام؛ فالمسيحية أذلت الشعوب واستغلت الدين لنيل المكاسب فيما رفعها الإسلام. وصدامها مع السلطة كان نتيجة التكالب على السلطة والنفوذ. أما الإسلام فكان دينا ودنيا. ومن ثمة ينتهي إلى أنّ فكرة العلمانية ليست في شيء من الإسلام بل هي وافدة من ثقافة معادية للمسلمين استباحت أرضهم وعرضهم في الحروب الصليبية وحملة نابليون بونابارت وحروب الاستعمار. وكان يجعل من هذه المصادرات أساس استراتيجيته الحجاجية لنقد تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة ذي النزعة العلمانية والتأثيرات المسيحية المعادية للمسلمين وفق تصور صاحب الكتاب. وهذا ما نتوسع فيه في الحلقة الثانية من هذه الورقة.
(المصدر: عربي21)