جدليّة إخضاع التراث الإسلامي لأدوات الدلالة الغربية
بقلم مقداد درويش
تجشّم بعض المفكرين والكُتّاب العرب خلال عدة عقود عناء الترويج لأفكار إخضاع التراث الإسلامي لتفسيرات علوم الدلالة الغربية (مثل الفيلولوجيا والهرمنيوطيقيا والنقد الأدبي وما سواه) عن طريق اعتمادها بدل علوم الدلالة الإسلامية (كأصول الفقه وعلم البلاغة وفقه اللغة ومصطلح الحديث). ويمكن القول بأنّ جهودهم تلك آلت إلى اللاشيء إن صح القول بخصوص التأويلات المغلوطة واللامنطقية حول التراث الإسلامي عمومًا. وفي تقديري أن حصولهم على هذه النتيجة يعود لعدة أسباب يمكن إجمالها بهذه النقاط:
* بدايةً، كان بعض رواد هذه المجالات كارهًا للإسلام أساسًا، فعند الحديث عن رائد الاستشراق الفيلولوجي (آرنست رينان) والذي يقول في مذكراته نقلًا عن حفيدته هنرييت بسيكاري “أنا المعروف بوداعتي مع جميع الناس، والذي أعاتب نفسي على عدم كره الشر، أعلن أني لست أشفق على الإسلام، وإني أتمنى للإسلام الموت المخزي، أتمنى إذلاله”، وقد ورد هذا النص في كتاب (لغات الفردوس) لصاحبه موريس أوليندر. وهو ما يجعل الموضوعية تغيب عن كلام رينان في مواضع كثيرة وخاصةً فيما يتعلق بالفليلولوجيا والنصوص الإسلامية، وهو ما يجعل قسمًا كبيرًا من طرح رينان غير موضوعي كونه متعلقًا بكره الإسلام الذي هو مادة الاستشراق الأكبر.
* من البداهة أن تبدأ التطبيقات العملية والممارسة الفعلية للعلم في مكان ظهوره ابتداءً، وهنا نتحدث عن النشأة الغربية لهذه العلوم، مما يدفعنا للتساؤل حول أمرٍ مهم؛ أين هي الدراسات الجدّية الحقيقيّة لإسقاطات الفيلولوجيا والهرمنيوطيقيا على النص الإنجليلي أو التوارتي، والديني عمومًا في الغرب؟ أين هي إعادة الصياغات المُجدية للنصوص والموروث لديهم؟ وواقع الحال أن من كانوا رائدين في هذه المجالات في الغرب أبقوها بعيدةً عن نصوصهم الموروثة! فكيف يصلح تأويل مثل هذه المجالات لكتب وشريعة ربانية كالإسلام، فيما هي فشلت ولم تنجح في تأويل مُجدي لنصوص الإنجيل والتوراه المحرّفتين أساسًا!
* استدراكًا على الحال المؤسف لهكذا مجالات وأطروحات، حاول بعض الضالعين في هذه المجالات إنزالها على النصوص القانونية لديهم، ولكن ردة فعل القضاة والمحامين على نتائج هكذا تطبيقات وإسقاطات لن تكون سوى الضحك والمزيد من الضحك بحسب أقوال بعض قانونيّيهم. وهذا العامل مع عوامل أخرى أنتج شِقّين من التيارات فيما يخص النص القانوني ودلالاته، فكان الشِق الأول هو النصّيون الذين يعطون الأولوية للألفاظ والمصطلحات، وكان الشِق الآخر للغرضيين الذين يعطون الأولوية لغرض مشرّع القانون وأهدافه، بعيدًا عن أوجه الفهم التي يمكن أن يحملها النص، والتي لا تتوافق مع مقاصد القانون أساسًا. يقول الدكتور شيرمان في كتابه (الهرمنيوطيقيا في القانون) حول هذه النقطة: “هناك الكثير من الكلام حاليًا عن الهرمنيوطيقيا في القانون، ولكن أليست لا تتجاوز كونها زخرفة أكاديمية؟”.
* عند النظر إلى حال من امتلك أدوات الفيلولوجيا والهرمنيوطيقيا والنقد الأدبي واللسانيات وغيرها مع المجالات الدلالية، فإن هذه الممتلك لتلك المجالات لا يُعد قادرًا على تطبيق إخضاع الموروث الإسلامي لأدوات الدلالة الغربية، وذلك لاعتبارات عدة أهمها مصادر التشريع الإسلامي، فمن يأتي بتأويل واستنباط جديد في هكذا مجالات، سيُطالب بالدليل والتبيان على ما قاله، وسيُنظر في استدلاله ومدى توافقه مع قواع الاستنباط وما سبق من النصوص الشرعية، وهو ما لا ينفرد به الشخص المعظّم لذاتية النص المُفرطة.
عدا عن أن أصول وقواعد الاستدلال الشرعي أكبر من هذه الذاتية والتحليلات الشخصية. وكذلك، عندما حاول بعض الحداثيين الغربيين إخضاع الموروث المسيحي والإسلامي لأدواتهم الدلالية، وجدوا بأنّ هناك تباينًا في الحالتين، فالفراغ الزمني إن جاز لنا التعبير غير موجود في النصوص القرآنية والتراث الإسلامي عمومًا كما عند التراث المسيحي؛ لأن اللغات التي نزلت بها الإنجيل والتوراة تعتبر مندثرة، وما هو موجود لها حاليًا – بغض النظر عن التحريفات – ليس نسخًا أصلية من ناحية اللغة الأولى للتنزيل، والهرمنيوطيقيا واللسانيات عمومًا، كان أحد أهدافها هو ردم هذه الهوة، بحيث يصبح هناك توافق بين الأصوليين والحداثيين لديهم، فالنص لا زال محفوظًا ومقدسًا كما يريد الأصوليون، والمعاني مقولبة بحسب مقاصد الحداثيين.
النص الإسلامي التراثي سيكون بمثابة الخليط الممتزج من عدة مجالات، الأمر الذي بدوره سيُنتج لنا تحليلات وتأويلات استشراقية عقيمة في أغلب الأحيان
ولا يزال هناك إشكال كبير لدى المستشرقين عمومًا، إذ يفنون زمنًا ليس بالقليل من أعمارهم التعليمية في تجهيز وتملّك الأدوات الاستشراقية الأساسية التحليلية، ولكنهم عندما ينتهون من أدوات اللغة والتحليل، يرون بأن الأمر متشعّب ومطلوبٌ منهم بأدواتهم المحدودة أن يحللوا النصوص الشرعية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأدبية وغيرها من المجالات للشرق، وهو ما لن يستطيعه المستشرق بأدوات الركيكة.
كما أن عملية الفصل بين هذه العلوم بالصورة الراهنة كما نراها اليوم، ليست موجودةً في النصوص والموروث الإسلامي الأول، إذ ينبغي على المستشرق نفسه أن يقوم بعملية الفصل بين هذا المجال وذاك، ومن ثمّ تصنيفه إلى شكل يمكّنه من استخدام أدواته التحليلية الغربية، ذلك أن النص الإسلامي التراثي سيكون بمثابة الخليط الممتزج من عدة مجالات، الأمر الذي بدوره سيُنتج لنا تحليلات وتأويلات استشراقية عقيمة في أغلب الأحيان، عدا عن كونها غير منطقية وقابلة للتداول كما سائر الاستدلالات من خلال العلوم الإسلامية الرصينة بهذا الخصوص.
(المصدر: مدونات الجزيرة)