جاميّة ليبيا .. الارتزاق المسلّح للاستبداد باسم السلفيّة
إعداد الشيخ محمد خير موسى
في نهاية التسعينيّات بدأت الجاميّة تتسلّل إلى ليبيا عبر الطلّاب الليبيين الذين ذهبوا يدرسون العلوم الشرعيّة في دار الحديث في دماج مقرّ المدخليّة في اليمن.
وكذلك عبر الأشرطة كما ساهمت شبكة الانترنت والمنتديات الحواريّة الشرعيّة في انتشار الجاميّة في ليبيا تلك الفترة.
تعامل القذّافي مع الجاميّة بعنفٍ وقمع شديدين كما هو الحال مع مختلف التيّارات الإسلاميّة، غير أنّ المدخليّة بقيت تؤكّد أنّ القذّافي هو وليّ الأمر الشّرعي الذي تجبُ طاعتُه في المنشط والمكره.
التقط ابن القذّافي؛ سيف الإسلام هذه الإشارة فبدأ مرحلة احتواء الجاميّة، وظهر بمظهر المتديّن الذي ينتهج النّهج السّلفيّ، وتقرّب من شيوخهم ورموزهم في ليبيا وفي السّعوديّة على حدّ سواء.
وهنا تُحوّل الجاميّة في عهد القذّافي من الملاحقة والقمع إلى الاستخدام من قبل النّظام لمواجهة التيّارات الدينيّة كالصّوفيّة وطرقها، ولمهاجمة التيّارات الإسلاميّة الحركيّة وفي مقدّمتها جماعة الإخوان المسلمين.
ومع قيام ثورة فبراير ضدّ القذّافي أعلن المدخليّة بوضوح حرمة هذه الثّورة وحرمة المشاركة في المظاهرات ووجوب الانقياد لوليّ الأمر الشّرعي القائد معمّر القذّافي، وحرمة الخروج عليه ووجوب لزوم البيت.
وكانت فتاوى الشّيخين محمد الأنقر ومجدي جفّالة المدخليين تُبث وتُنشر عبر وسائل الاتصال والإعلام من شركات جوّال وتلفزيونات وإذاعات ويتمّ تعميمها على الشّعب في إطار مواجهة ثورة فبراير.
استمرّت الجاميّة في موقفها الذي يجرّم الثّورة إلى حين مقتل القذّافي، ممّا دفع شرائح من الثّوّار إلى اعتقال بعض رموز الجاميّة ما أدّى إلى ظهور الحقد المتبادل بين الفريقين وزيادة الاستقطاب.
غيرَ أنّ الجاميّة بدأت تستغلّ الفراغ الذي نشأ في المجتمع وما تبعه من حريّة في التّحرّك من أجل تقوية التيّار الجاميّ عبر الانخراط في العمل الاجتماعيّ والخدميّ والإغاثيّ والتّأكيد على بُعدها عن العمل السّياسيّ ورفضه.
ومعروفٌ عن الجاميّة أنّهم يعلنون بشكلٍ واضحٍ كفرهم بالدّيمقراطيّة، وتحريمهم للانتخابات، ورفضهم المشاركة في أيّة عمليّة انتخابيّة.
وفي عام 2012م أعلنوا أنَّ انتخابات المؤتمر الوطني بدعة يحرمُ المشاركة فيها، لكنّ هذا الموقف اختلف تمامًا في انتخابات مجلس النوّاب اللّيبي التي أجريت عام 2014م حيث أعلنت جاميّة ليبيا وبعد إرسال وفودٍ منهم إلى السّعوديّة ولقاء رموز الجاميّة وعلى رأسهم الشّيخ ربيع بن هادي المدخلي المشاركة في هذه الانتخابات بل حشدوا لها معلنين أنّهم يفعلون ذلك نصرةً لدين الله تعالى، وحماية للإسلام من خطر جماعة الإخوان المسلمين.
وهنا يتجلّى بشكلٍ واضح استعداد الجاميّة لتغيير مواقفهم وتحويل البدعةِ المحرّمة إلى واجبٍ شرعيّ في زمن قياسيّ، ونقض فتاواهم التي خاضوا المعارك الفكريّة لأجلها.
وهذا التّغيير غير نابعٍ من مراجعة الموقف الشّرعي بل دافعه النكاية بالإخوان المسلمين من جهة، وتنفيذ الرّغبات السّعوديّة من جهةٍ أخرى في تعبيرٍ واضحٍ عن استخدام الدّين لا خدمته.
كانت نقطة التحوّل الأبرز في الحالة الجاميّة الليبيّة مع انقلاب حفتر عام 2014م.
غدت الجاميّة من هذه اللحظة ميليشيات مسلّحة تعلنُ الجهاد في سبيل الله تعالى ضدّ خصوم حفتر والسّعوديّة والإمارات.
ومن أجل أن يكون الجهاد مشروعًا فلا بدّ من وصم الأعداء بتوصيفات تثير نهم المقاتلين للمواجهة؛ فكان التّوصيف الذي تتكئ عليه التعبئة هو وصف الإخوان المسلمين وغيرهم من التيّارات الإسلاميّة التي تعارض حفتر بأنّهم “خوارج” و”دواعش” وهذان الوصفان كفيلان باعتقاد المقاتل أنَّه يتقرّب إلى الله تعالى بقتل هؤلاء.
إضافةً إلى إحياء مصطلح “وليّ الأمر” ووصف حفتر به مع كلّ حديث، ممّا يوجب على المقاتل أن يسمع ويطيع في المنشط والمكره.
وكانت البداية بتشكيل “كتيبة التوحيد” في مدينة بنغازي وبعدها تتابع تشكيل الكتائب المسلّحة الجاميّة.
ومع بداية تشكيل الكتائب المسلّحة المدخليّة نلحظ ثلاثة مسارات انطلقت بالتّوازي لخدمة هذه الخطوة:
أعلن حفتر عن إجراءات تمنح الجاميّة مساحات واسعة في مراكز القرار في مناطق سيطرته؛ فسلّمهم وزارة الأوقاف، لتغدو المساجد كلّها تحت سيطرتهم والمنابر محطّات تعبئة لنصرة حفتر ومواجهة التيّار الدّيني المضاد الذي يتزعمه مفتي ليبيا الشّيخ الصّادق الغرياني.
ومن هذه القرارات أيضًا دمج الكتائب العسكريّة المدخليّة في فرق الجيش مثل الكتيبة 210 مشاة والكتيبة 302 صاعقة؛ ممّا أتاح للجاميّة الانتشار الواسع داخل الجيش واستلام مفاصل مهمّة فيه.
ما أن انطلقت “عمليّة الكرامة” بقيادة حفتر حتّى انطلقت الأصوات الجاميّة في مختلف البلدان لا سيما مصر والسّعوديّة واليمن تستنفر شباب السّلفيّة الجاميّة للمشاركة في القتال تحت إمرة وليّ الأمر الشّرعي خليفة حفتر.
فانطلقت الدّعوات من الشّيخ طلعت زهران والشّيخ محمّد سعيد رسلان من مصر، غير أنَّ أبرز هذه الجهود التحشيديّة كانت من رأس التيّار الجامي الشّيخ ربيع المدخلي الذي وجّه رسالةً طويلةً إلى السلفيّة الجاميّة في ليبيا جاء فيها:
” على السّلفيين أن يلتفّوا لصدِّ عدوان الإخوان المفلسين، ولا يُمكِّنوا الإخوان من بنغازي.
الإخوان يلبسون لباس الإسلام وهم أشد على السّلفيين من اليهود والنصارى، داعش تربت في إيران، وهم فصيل من فصائل الإخوان المسلمين، وهم أشد الأحزاب على السلفيّين يكفّرونهم ويقتلونهم”
وأمّا الشّيخ محمّد ابن الشّيخ ربيع المدخلي فقد قال في لقاء مع قناة البصيرة عام 2014م:
” نحن مسرورون بحركة حفتر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصره بدون سفك دماء كثيرة إن شاء الله.
وإذا كان عند حفتر قُوة يفعل كما فعل السيسي، يعتقل الرؤوس الكبار ويدخلهم السجن حتى يمشي الشعب وراءه بكل راحة وهدوء بإذن الله”
عملت الماكينة الإعلاميّة التابعة لحفتر والمساندة له في كلّ من السّعوديّة والإمارات على صناعة أبطالٍ من هؤلاء الجاميّة المقاتلين تحت إمرة حفتر، ومن أبرز هؤلاء:
- محمود الورفلّي: وهو من أشرس المدخليّة وأكثرهم دمويّة، عيّنه حفتر آمرًا لمحاور قوّات الصّاعقة، وهو كثير التباهي بالقتل عبر بث مقاطع يقتل فيها من يسمّيهم “خوارج العصر” و”كلاب أهل النّار”، وبدأت عمليّة ترميزه من خلال وصفه في بيانات الكتائب المدخليّة بأنّه ” قاهر الخوارج والإخوان والتكفيريين”
- أشرف الميار: مؤسّس كتائب التّوحيد، ويحلو للجاميّة تكريمه بوصفه “مفتي حفتر” وأشهر فتاواه وجوب قتل الأسرى من خصوم حفتر لأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فلا توبة لهم.
- قجة الفاخري: جاميّ دمويّ ولّاه حفتر إمرة قوّة سلوق في بنغازي، وهو منفّذ مذبحة الأبيار التي قتل فيها 38 شخصًا ثمّ رميت جثثهم على قارعة الطّريق، والجاميّة يتغنّون ببطولاته ومذابحه.
وهكذا نرى أنّ الجاميّة الليبيّة المسلّحة تؤكّد أنَّ المدخليّة في أصل تكوينها تيارٌ قائم على العنف والبطش الدمويّ بالمخالف، وإنّما يفعلون ذلك حيث تسنح الفرصة المواتية كما هو الحال في ليبيا واليمن.
ممّا يجعلنا نؤمن بأنّ كلّ مكانٍ تنشط فيه الجاميّة يمثّلُ بؤرةً للتحوّل إلى البطش الدّمويّ حين تسنح الفرصة، وأنّ كل إعلانهم عن البعد عن السياسة والقتال محضُ تدليسٍ لا قيمة له.
(المصدر: الجزيرة مباشر)